في تداول الآراء سعة وفسحة يحوط ذلك أساليب الحوار وآدابه حتى يكون أطراف الحوار ومن يشارك بالرأي يتسم بالأدب والاحترام يعطي ويأخذ، يقول ويسمع لا يُلزم غيره ولا يُكْره على رأي لا يقبله، وليتضح الأمر أكثر: فإن الآراء التي تقبل التعدد من قبيل أعمال الدنيا -التي لا تنفك في إقامتها عن شرع الله ولاشك- غالباً ما تكون في المعاملات أو قضايا السياسة أو مصطلحات الفنون أو طرق التربية والتعليم أو الوسائل العسكرية والأساليب التجارية والدورات المهنية واللغوية والإدارية.. لا مجال للحصر؛ ولكن بالمثال يتضح المقال، وأريد من ذلك أن نجعل محترزات للتعريف وأهمها ورأسها مسلمات الشريعة وقواعدها وأسسها وما لا مجال لأن يكون محل نظر أو نقاش؛ وفي هذا يقول الحق تبارك وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (65 - النساء) قال ابن جرير الطبري -رحمه الله- معنى الآيه».. ويسلموا لقضائك وحكمك، إذعاناً منهم بالطاعة، وإقراراً لك بالنبوه تسليماً» جامع البيان (8/519).
نرجع لموضوع المقال بعد أن عرفنا أن هناك موضوعات لا تحصر تقبل الآراء المتعددة وليست توقيفية، والمتتبع لسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسعة حلمه وقبوله لأصحابه واستماعه لهم والأخذ برأيهم في أمور مهمة فضلاً عن الأقل منها أهمية؛ فقد أخرج الإمام مسلم عن أنس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرّ بقوم يلقحون، فقال: «لو لم تفعلوا لصلح» قال: فخرج شيصا، فمر بهم فقال: «ما لنخلكم؟» قالوا: قلت كذا وكذا، قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم».
وقد بوب النووي -رحمه الله- في شرحه على صحيح مسلم فقال: (باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره -صلى الله عليه وسلم- من معايش الدنيا على سبيل الرأي) هذا وهو سيد ولد آدم لم يكن ليفرض عليهم رأياً في معاش الناس؛ بل كان يقبل رأي صحابته ويستشيرهم والسيرة مليئة بالمواقف، أليس من الأولى أن يتسع صدرك لرأي إخوانك وألا تضيّق الدائرة؛ فالميدان يتسع لسباق الخيل وتنافس المتسابقين، وكذلك ميدان الآراء يتسع لطرح الكثير وإبداء وجهات النظر ولا يعد مخالفتي لرأيك الإساءة إليك؛ بل قد تصيب ويخطئ غيرك وقد تخطي ويصيب غيرك وقد تنجح في أمر وتفشل في آخر وليس لأحد صواب محض؛ ولكن الصواب في عدم الأحادية وتسفيه الآخرين والتعالي عليهم وازدراء آرائهم وإلزامهم برأيك وكأنه أمر توقيفي؛ بل منهم من يسلط شره كذباً وبهتاناً لمن خالفه!!!..
الآراء في أُطر لا تتعدى الشرع ولا تجنح إلى الباطل هي في سعة لا تقبل التضييق وفي ميدان لا يقبل التحجير، وليكن من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» أسوة أن نتوازن ونتشارك ونعدل في طرح آرائنا مع آراء الآخرين ولو خالفونا، فلا اختلاف إلا بين الحق والباطل والخير والشر... وفيما يحتمل الخلاف وطرح وجهات النظر فلا إقصاء ولا تسفيه ولا تحجير.