د. محمد عبدالله العوين
كل عام وأنتم بخير..
كانت رحلة حج فاخرة حقاً، ورحلة شغف روحية عجيبة أيضاً محتشدة بأمنيات وأحلام ورؤى وأطياف لا تبرح تراود خيال الفتى منذ وعى وأدرك وأدى فروضه الدينية من صلاة وصيام، وحانت فرصة سانحة لأداء فريضة الحج.
قال له والده الذي كان يعمل إماماً ومستشاراً دينياً للأمير محمد بن عبد العزيز آل سعود - رحمهما الله -: طلبني الأمير أن أحج معه فهل لك أن تصاحبني وتؤدي فرضك؟
لم يحر جواباً في الرد؛ فقد كان جاهزاً ولا يحتاج إلى لحظة تفكير، هذا عرض نفيس اجتمعت له أسباب التميز؛ فوالده بجانبه والأمير رجل كريم فاضل متواضع يعامله بلطف ومودة، وستكون كل أسباب الراحة ميسَّرة.
في فجر السابع من ذي الحجة 1393هـ (قبل كذا سنة!) وقفت أمام منزل الأمير في حي «جبرة» سيارة جديدة موديل ذلك العام من نوع « كاديلاك» لونها (شاهي على حليب) كما يُقال آنذاك، وتأهب الجميع في انتظار مقدم الأمير الجليل الذي ما زال مواصلاً أذكاره في المسجد القريب من المنزل بعد صلاة الفجر وقد تعود أن يظل فيه إلى أن تبدأ خيوط الشمس الأولى في الإشراق؛ إلا أنه اليوم على جناح سفر إلى مكة فخرج بعد ربع ساعة من انتهاء الصلاة.
ما أكرم وأجل وأرقى وأسمى تربية أبناء الأسرة الكريمة؛ فقد تعوّد ابنه الأكبر الأمير «سعود» - رحمه الله - أن يهدي والده في كل سنة يحج فيها سيارة جديدة، وها هي رائحة مراتبها المميزة تبوح بأسرار جدتها، قبَّل الأمير سعود أنف والده ويده وودعه بدعاء حار بالقبول، ثم ودع بقية الأبناء والدهم واحداً إثر الآخر الأكبر فالأصغر متبعين الأسلوب نفسه.
كان الفتى في المرتبة الخلفية بجانب والده، ومشاعر مضطربة لم يعرف كيف يمكن أن يستوعبها؛ فهو منبهر ومندهش ومعجب وفرح ومنتظر مفاجآت سارة متوقعة بما أن هذا الذي رآه في هذا الفجر الأخاذ كان المشهد الأول.
انطلق السائق «مرزوق» الذي ينتمي إلى قبيلة عربية أصيلة بهدوء وترو بين شوارع وسط الرياض القديم منسلاً من جبرة إلى دخنة ثم منعطفاً جنوباً إلى شارع سلام إلى طريق مكة القديم حتى ترك المدينة بعد أن تجاوز ثلاجة الحجي التي تنتهي بها المباني السكنية - آنذاك - ثم تبدأ محطات بنزين وقهاوٍ تقدِّم بعض المأكولات والمشروبات المتواضعة، ويرتادها في الغالب مدخنو الشيشة.
كان طريق الحجاز القديم ذا مسارين مشتركين للذاهب وللعائد ويمر بعد أن ينحدر من ديراب بمدن وقرى صغيرة ومزارع وفضاءات واسعة ممتدة من البراري.
مررنا على المزاحمية فالقويعية فالرويضة فحلبان فالحوميات فظلم فالمويه ثم وصلنا الطائف قبل غروب الشمس، كان مرزوق يريد أن يختصر مسافة 850 كم فتنقل في قصصه وأحاديثه - وكأنه مذياع أو شريط مسجل - من القنص إلى أسماء الأودية والقرى والقبائل التي نمر عليها... يتبع