د.فوزية أبو خالد
لا بد أنه ممن بكت عليهم الأرض التي ولد عليها والتي لعب برمالها طفلاً وخط أحلامه يافعاً على سندسها من تراب الدوادمي الطاهر الغالي.
لا بد أنه ممن بكت الأرض التي مشى على أرصفتها وأسفلتها وحجارتها, مُعلماً عَلماً من أعلام أعضاء هيئة التدريس, في عدد من أحياء الرياض (من حي الجامعة القديم شرق الرياض لحي عليشة مقر مركز الدراسات الجامعية للبنات غرب الرياض ومن مبنى بث دائرة التلفزيون المغلقة للبنات لما كان كلية التجارة القديمة على الشارع العام لحي الفاخرية) الناصرية إلى مكاتب قسم الدراسات الاجتماعية مبنى 16 من كلية الآداب لحرم جامعة الملك سعود بالدرعية على امتداد شارع حسن آل الشيخ.
ولا بد أنه ممن افتقدته الأرض الغريبة التي انتقل إليها من وطنه بقلب الجزيرة عابراً للقارات ليكون بها طالباً مجداً من أوائل دفعات الشباب الدارسين بالخارج في السبعينات الميلادية ممن كانوا سفراء لوطنهم في تمثّل مكارم الأخلاق وفي تجسيد الشغف المعرفي من قاعات الدراسة الجامعية بكلية لويس أند كلارك لمدينة بورتلاند بولاية أوريجن في الشمال الغربي بأمريكا إلى دراسة الماجستير والدكتوراه بجامعة هل بالمملكة البريطانية المتحدة.
فصاحب ذلك الوجه التمري وكأنه مسكوب من غلال النخيل وصاحب تلك القامة العسيبية وكأنها مشتقة من واحات النفود والدهناء ما مست قدمه أرضاً إلا وترك عليها أثراً من أثيره وبصمة من شمس بلاده. كما أن ذلك الرجل الذي جمع بين عقل مستنير وجرأة أدبية وبين نفس مطمئنة يحليها الحياء والتواضع ما لامست هامته سماء إلا وكتب على عليائها اسم وطنه وأضاف لنجومها نجوماً جديدة هم الريم وريهام وصلاح ومازن ود. رنا.
عرفت أستاذ الأساتذة سعد الطخيس قبل أن أراه. فعندما التحقت بكلية لويس أند كلارك كولج بأمريكا بعد تخرّجه بسنوات طويلة فوجئت باسم طالب سعودي على لائحة شرف خريجي الكلية الأوائل, كما فوجئت بأستاذ من أستاذة قسم الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجي المتميزين بالكلية، بل على مستوى الشمال الغربي أكاديمياً يحدثني عن شاب حيوي حيي عاشق للقراءة متبتل في البحث تتلمذ على يديه كأول طالب يقابله من بلد النفط فيبهره بما كان يجتمع فيه من ذكاء فطري وملكة مكتسبة في الرغبة والقدرة على التعلّم وعلى البحث وعلى صبر التعليم, بل إن برفيسور الدراسات الاجتماعية الأمريكي د. جون كانون كان لا يزال يحتفظ ببحث التخرّج للطالب سعد الطخيس مما أطلعني عليه باعتزاز لموضوعه ومنهجيته.
فلما التحقت بجامعة الملك سعود كمعيدة تعرّفت وجهاً لوجه على أستاذ ناصع السريرة نظيف اللسان واليد صافي الفكر من الأساتذة السعوديين القلائل المؤسسين وقتها لقسم الدراسات الاجتماعية بجامعة الملك سعود مطلع الثمانينات الميلادية. وكانوا على وجه التحديد د. عبدالله البنيان, د. عبدالله الفيصل الشمري د. محمد العتيبي د. إبراهيم العبيدي والقامة الشابة المحاضر حينها قبل مواصلة مشواره العلمي لدراسة الدكتوراه سعد الطخيس ملتحقاً بهم الزميل د. عبدالإله بن سعيد.
إلا أنه ما لبثت أن توثّقت العلاقة بهذا الزميل المميز علماً وخلقاً من خلال الكفاح اليومي المشترك والتعاون الأكاديمي والإداري الذي كانت تتطلبه طريقة التدريس الجامعي بقسم الدراسات الاجتماعية بالجامعة بين الأساتذة والأستاذات في قسم ناشئ للتو يقتضي رفع أعمدته تكاتف قدراته القليلة نساءً ورجالاً في محاولة توطيد البناء على الأسس الأكاديمية المتعارف عليها في جامعات العالم. ومما عمّق معرفتي بالزميل سعد الطخيس وجعلني أختبر فيه شخصياً الأخ السابع الذي لم تلده أمي هو تعرفي ومزاملتي للصديقة لطيفة العبداللطيف وهي زوجته التي كانت تضاهيه شغفاً علمياً وشفافية أخلاقية وأدبية.
عرفت أستاذ الأساتذة سعد الطخيس ود. لطيفة العبداللطيف عبر زمالتنا في الجامعة وعبر جيرة في سكن الجامعة بالدرعية بين عمارة خمسة وعمارة أربع وعشرين, وعبر لعب أطفالنا بين الملاعب والتحاقهم بمدرسة مجمع الملك سعود للدراسة المتوسطة والثانوية بالحي السكني. فكان كأنني دخلت من خلالهما جامعة تتخصص في الصدق الإنساني والإخلاص المعرفي والوفاء المافوق بشري.
لم أحتج يوماً خلال ما يزيد على ثلاثين عاماً من الزمالة والجيرة والصداقة والخبز والملح والحبر ومواجع ومباهج البحث العلمي والتدريس, طبيباً أو محامياً أو ملاذاً أو سنداً أو أماً أو أباً إلا ووجدت أبا صلاح بجانبي ووجدته عيني اليمين وعيني اليسار ولسان حالي، بل كان يمثّلني أو ينوب بالتعبير عني وفي الذود عن أوراقي في كل المواقف والمراجعات التي لا أستطيع بحكم الفصل الإداري والتداخل في الوقت نفسه بين قسم الرجال وقسم النساء من قسم الدراسات الجامعية بين مركز الدراسات الجامعية للبنات وبين الجامعة ككل وكهيئة مستقلة. وقد تعدّدت أمثلة ذلك من متابعة حقائب بحوثي للترقية لمتابعة أوراق علاجي إبان محنتي الصحية وسواها كثير. فكنت أجد يده في يد د. لطيفة عبارة عن يدي ودوائي, سقفي وأجنحتي, مائي وهوائي في حلي وترحالي وفي مرضي وصحتي. لم يتخليا عني لحظة واحدة لا في الأيام البيض ولا في الأيام الظلماء كما فعل الكثير حسب مد وجزر تلك المرحلة التاريخية من عمر العمل الأكاديمي، بل من عمر الدولة والمجتمع في التسعينات بضنكها وحماها.
لقد كتب زميله وزميلي د. خالد الرديعان مرثية مؤلمة وشفيفة في رجل كانت شيمته الشهامة تجاه الزملاء والزميلات ممن كان بعضهم طلبته لحين أصبحوا أساتذة ورؤساء أقسام من المنصفين ومن اللا مكترثين. فرحل أستاذ الأساتذة لرحمة ربه دون أن ينال التقدير والتكريم الذي يستحقه لا من القسم ولا من الجامعة.
وكانت تلك المرثية غاية في الجمال وأستأذنته في نشرها إلا أنها ضاعت مع الأسف مع ما يتراكم على الجوال من رسائل على أهمية تلك الرسالة بشكل خاص.
كما أن الزميلة د. سلوى الخطيب أيضاً وهي من مؤسسي قسم الدراسات الاجتماعية بجامعة الملك سعود كتبت كلمة من عيون النثر الأدبي في رحيل أستاذ الأستاذة سعد الطخيس, ومما أستعيره منها قولها: كان سعد ولطيفة مع حفظ الألقاب إنسانيين من عظمة العلم ونبل الأخلاق.
أما أنا فكتبت أنني من الذي يعزون في أبي صلاح لأنني بفقده نزفت ريشاً غزيراً من أجنحتي المجرحة بشراسة الأحلام وقلق البحث العلمي والحياتي، ولأن الوجود بفقده فقد إنساناً نادراً هذه الأيام في السمت والسمو معاً. وإني لأسأل الله العزيز الجبار اليوم لأستاذ الأساتذة في هذه الأيام الفضيلة من شهر ذي الحجة وبعد رحيله بثلاثة شهور دون أن تنطفئ له جمرة فراق واحدة, أن يحفه بأجنحة رحمته إلى يوم يكون فيه ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وأن يجزيه أجمل الجزاء عن علمه وتفانيه وما قدمه لأبناء وبنات وطنه ووطنه من علم ومن معرفة وإخاء.
كان نصيراً للعلم نصيراً للمرأة نصيراً لوطنه دون «طنطة» ولا ادعاء.
رحم الله أستاذ الأساتذة سعد الطخيس.
كان شعلة معرفة
كان منارة حق
كان ينابيع حنان
وكان راية سلام