بالتأمل في خط حياتي وجدت أنني أتنقل بين نقاط مبعثرة، لم أعثر حينئذ بعقلي على تفسير يجمع بينها، ولكن حين تجاوزت ذلك، والتفت ورائي، عثرت على الرابط الذكي الذي ألَّف بينها، وجعل منها سُلمًا يدعمني أثناء الصعود «الكاتبة».
في الوقت الذي يعلن فيه التفكير المنطقي الذي يعد إحدى عمليات العقل المركبة عجزه عن ابتكار حلول مبدعة للمشكلات المعقدة، أو حتى التنبؤ بالتحديات المستقبلية؛ باعتباره لا يقوى على اختراق حاجز العالم المرئي، عاجزًا عن الجمع بين المتناقضات، فضلاً عن كونه مؤطرًا بحدود الحواس، مخدوعًا بالقصور الطارئ على استنتاجاتها، مقيدًا بتجارب الاستقراء، مرتهنًا بخبرات وتجارب الماضي.. لهذه المقدمات وغيرها فإنه قد آن الأوان للاعتراف بأننا لا ينبغي أن نرمي بكامل ثقتنا صوب العقل وحده.
«إنني لم أكتشف أي شيء مستعينًا بعقلي المنطقي» اينشتاين.
إنه الوقت المناسب لإعلان بزوغ زمن «الحكمة غير التقليدية» المنتصب بقامته على دعائم ثلاث، هي: الإيمان اليقيني، الخيال الحي والإلهام المستنير.
هو نفسه المستوى اليقيني لأبي بكر - رضي الله عنه - تجاه معجزة صاحبه - صلوات ربي وسلامه عليه - حين همس في إذنه أن قد أُسري وعرج به البارحة في رحلة إلى خارج خط الزمن، وقد عاد لفراشه وهو لا يزال دافئًا. وهو نفسه الإيمان بصدق الصادق المصدوق حين تنبأ بسقوط عروش الكياسرة ونفوذ القياصرة..
وهو الإيمان بعدالة حقوق أصحابها، إذا امتزج بخيال حي فإنه كفيل بتحويل حلم صاحبه من خطبة شهيرة إلى واقع معاش؛ فخطبة «مارتن لوثر» لم توجه مشاعر الجماهير الغاضبة فحسب، بل خلدت النصب التذكاري الذي أقيمت تحته، كما وثقت لحقبة زمن الرئاسة الأمريكية آنذاك.
الخيال الحي الذي حمل «والت ديزني» على الصدع بعبارته الشهيرة من فوق حقول خربة: هنا سأحول الحلم إلى حقيقة!
ولكن الخيال يبقى خيالاً ما لم يُغذَّ بالرغبة الصارمة، ويُحمى بالوقوف بشجاعة في وجه الإخفاقات والإحباطات،
أما الإلهام فإنه إما أن يبزغ كومضة خاطفة، تأتي على هيئة صورة، كما رأى اينشتاين نفسه يمتطي شعاع ضوء، فخرج بنظرية النسبية، أو كعبارة مسموعة، أو حتى على هيئة حدس لا يحتاج من صاحبه إلا أن يمنحه الفرصة، بتنحية عقله المغرور ومشاعره المضطربة؛ ليتسنى له بعد الإصغاء له.
الملهم ليس بالضرورة أن يكون محظوظًا؛ فبمجرد أن يسترخي فوق أريكته تتراقص أمامه أفكاره الإبداعية بنشوة وغبطة.
الملهمون في الغالب قد عاصروا تجربة الشك والحيرة، كأن يكون قد عاصر صراعًا فكريًّا أو علميًّا وتناقضًا صارخًا بين تيارات متصارعة، ورأى أن كلاً منهم يدعي احتكار الحقيقة في حين أن لكل منهم وجهًا من الحقيقة.. أو قاسى من ضغط ذهني ونفسي من جراء حاجة ماسة لحل عاجل.
وهذه المرحلة قد تسوقه إلى تفضيل قرار العزلة بعد مصارعته الشعور المرير بالعجز العقلي؛ فيعترف قصرًا بأن العقل ليس كل القصة.
وفي عزلته حيث تصمت الأفكار، وتتاح له بيئة للتأمل والتروي، وتسنح له فرصة للخروج من دائرة المألوف، والنظر إلى الزوايا من خلال منظور جديد ومختلف، حينها يكون المناخ مناسبًا جدًّا لوميض الإبداع بالانبثاق! وعلى شاكلة (أرخميدس) الذي خرج من مسبحه يصيح: وجدتها! ولكن على الملهم أن ينتبه عند الإشراقة لعنصرَيْ السرية والتروي؛ لئلا يُتهم في عقله!