عبده الأسمري
ما إن يبدأ العد التنازلي لموسم العيد حتى تنكص الذاكرة بنا إلى أرشيف «الأعياد» ويجول بنا الفكر بين الظواهر والمظاهر لهذه المناسبة الدينية والاجتماعية والإنسانية العظيمة التي شرعت لأهداف ومبادئ ورؤى سامية تعكس جوهر ديننا الإسلامي..
..العيد موسم ثابت ولكن الأنفس هي من تبدلت وتغيرت فرسمت خارطة العيد وفق الأهواء والمصالح والتغيرات والمتغيرات في ظل ما صنعته فينا «التقنية» وما خطته عجلات الزمن في دربنا من تبدل وتبديل..
في زمان مضى كان عيد الأضحى موسم فرح مختلف, كانت الإنسانية تحفه بأهمية الجار وتغلفه الرحمة بأحقية «الفقير» وتؤطره العاطفة بأفضلية «الصديق».. في القرى وحتى المدن المشبعة بنفحات «الطيبين» كان العيد موسمًا «مشتركًا» لا مكان للفردية فيه ولا موقع للذاتية داخلة.. الجميع يرسمون العيد بألوان زاهية ويكتبون الفرح بخطوط عريضة..
كان الصبية يقضون وقتا «ماتعًا» في مداعبة خروف العيد لأيام وفي إمداده بالأكل والشرب داخل المنزل قبل يوم النحر.. وكانت الأسر تتناقل مواصفات الأضحية تباهيا بالتدين وتنافسا في الصالحات بعيدا عن التمظهر والتكبر..
لم يكن رب الأسرة في ذلك الوقت بحاجة إلى المرابطة على أبواب المسالخ لحجز الأضحية لديهم ومحاسبتهم عاجلا كما يحدث في عصرنا الحالي وسط طوابير الانتظار في إنهاء مهمة يراها البعض «ثقيلة» ومن باب «إنهاء العيد» و»تأدية الواجب» بل إن الماهر في السلخ قديمًا يقوم بالمهمة لكل الحي وكله فرح وبهجة بالعون في وقت كان للحوم العيد طعم خاص تماما كلذة تلك الأيام البيضاء التي تشبه بياض قلوب العائشين في لحظاتها.
كان البشر منشغلين حينها ما بين إعداد خطط اجتماعية رفيعة الشأن لاستقبال الحجيج وأخرى لجدول العيد والأدوار المساندة من كل أسرة. كان الكل مشغول بمساندة جاره وبمساعدة الأسر التي غاب عنها عائلها للحج.. كانت موشحات الصفاء تعمر تلك البيوت «الصغيرة» وتغمر قلوب الأطفال والكبار بكل معاني «النقاء» والعطاء.
في سنين خلت كان العيد ملحمة عطاء يتشارك فيها الكل صغارًا وكبارًا وكانت مصليات «العيد» شاهدة على محفل إنساني عظيم لا ينتهي إلا بعد مصافحة حقيقية بين الجميع يعلوها التسامح ويبلورها الصدق.. وما أن تنتهي تلك المرحلة حتى ينطلق الجميع في معايدة ميدانية مرتبة تبدأ بالكبير ثم الأصغر في ترتيب تملؤه «الأخوة الصادقة».
كان العيد تدريبًا وجدانيًّا وتأهيلاً اجتماعيًّا وتفاعلاً نفسيًّا بين الناس يشيع معاني الود والتراحم في منهج واحد عنوانه «المودة» وتفاصيله «السخاء»..
ماذا تبقى من العيد «رسائل بائسة» محاطة بأسوار جاهزة مجمدة بأمر التحويل من جهاز إلى آخر مشكلة بتلاعب الفوتوشوب.. لتصل إليك صور وعبارات مصيرها «المسح» و»التمرير» والإحالة إلى الآخرين!!
بعض ممن يتشبث ببقايا الزمن يوهم نفسه بالعيد في استراحات مغلقة ومناسبات جامدة وليالٍ عشوائية تطغى عليها فوضوية الأطفال وظواهر التشاحن ومظاهر تبادل الضيافة في اليوم التالي. في وقت ينشغل الجميع بجوالاتهم ويشغل العديد منهم ساعات اليوم كيفما اتفق في مناسبة لا تنتمي للفرح الحقيقي والبهجة الأصيلة كما ترغب الأنفس وكما يليق بالمناسبة.
اجتاحت ظواهر التغير والتغيير مواسم العيد الأصيل الذي بقي في قلوبنا وعقولنا «كأيام أصيلة» ننقلها للمقارنة نخضعها للاسترجاع مع زمن حالي غير الملامح وبدل المظاهر.. نحاول الثبات أمام رياح تبدل عاتية أتت على قواعد الفرح العميقة فهزت أركانها في دوامة لا نعلم إلى أين ستنقلنا وتنقل أجيالاً قادمة بات العيد لديهم «يومًا تلقائيّا» و»موسمًا اعتياديًّا» و»وقتًا متجاوزًا « دون الاستفادة من قيمته وقيمه.
على الأسر أن تعلم أفرادها أن العيد موسم استثنائي لصفاء التعامل وتصافي القلوب ونقاء المعاملة وأنه فرصة لتجديد الفرح وابتكار السرور وتطوير السعادة.