عبد الله باخشوين
** علمتنا متطلبات (السرعة) في (صحافة الأمس) كتابة (الموضوع) فوراً -حين يطلب منك ذلك- وتقديمه لرئيس التحرير.. أو الزميل المختص.. دون إعادة قراءته إلا في اليوم التالي وهو منشور حيث أريد له أن يكون على صفحات الجريدة.. وعادة ينشر خاليا من الأخطاء و(التجاوزات) لأنه يمر على أكثر من زميل آخرهم (المصحح).
أما بعد أن أصبحت وحيداً.. أكتب من (منازلهم) فإنني لم أتمكن من التخلص من هذه العادة..
فما زلت (أكتب وأرسل) دون إعادة قراءة واكتشاف الأخطاء بعد النشر.. ولمرة أو مرتين حاولت إعادة القراءة لـ(التصحيح) فاكتشفت أن هذة (العملية) جعلتني أتدخل بالحذف والإضافة وأخرج في النهاية بـ(موضوع) آخر غير الذي كتبت في البداية.. فاكتفيت بالكتابة والإرسال فقط.. لأن ما ينتج عنها هو أقل الأضرار.
أما في الكتابة (القصصية) فإن القصة قد تستغرق كتابتها عدة شهور.. قبل أن أكتشف أنني غير راضٍ عنها بعد قراءتها منشورة.. لذلك أعرض بعض أجزاء مسودتها الأولى على قارئي الأول والأساسي الذي أعتمد عليه في كل ما أكتب.. وأقصد به زوجتي التي شاركتني أفراح وأحزان ومخاوف كل ما كتبت. غير أنني كسرت هذه القاعدة عندما كتبت مجموعة صفحات من مشروع رواية بطلها (المكان) حيث بنيت (فكرتها) عن (مكة المكرمة) وتطورها العمراني والخدماتي.
صورت من تلك البداية -التي كتبتها في القاهرة- ثلاث نسخ وقدمتها للمرحوم الأستاذ الكبير تركي السديري رئيس تحرير جريدة الرياض التي كنت أكتب لها في ذلك الوقت.. وللأستاذ يوسف الكويليت خلال وجودهما في القاهرة.. وأخرى لصديقي السيناريست سامي السيوي.
رحب تركي- رحمه الله- بالمكتوب واحتفظ به وطلب إكمال العمل.. وهاجمه ورفضه يوسف الكويليت جملة وتفصيلاً.. أما سامي السيوي فقدم لي اقتراحاً هاماً.. حيث أكد على ضرورة أن يقرأه (مهندس) معماري متخصص.. لأنه سيكون الوحيد القادر على معرفة الصح من الخطأ فيما ذهبت إليه.. وعند عودتي لجدة قدمت نسخة لصديقي الدكتور عمر المشعبي رئيس (بلدية) الطائف لأكثر من عشر سنوات.. غير أنه فضل الصمت وتجاهل الإشارة لما في تلك (الأوراق) خلال لقاءاتنا المتكررة فعرفت أن ذلك هو رأيه دون رغبة في الخوض في التفاصيل.
ذلك أن كاتب (الرواية) أزال كل المناطق العمرانية من نهاية (مشعر منى) حتى مداخل (الحرم المكي المشرف).. ومد سكة حديد بمحطات قدوم وذهاب، أما المحيط الفارغ فقد زينه بالمظلات والمطاعم والمقاهي وغطى كل ماحولها بذلك النوع من الأشجار الظليلة التقليدية التي كانت تنتشر في أحياء مكة المكرمة والتي بعضها ما زال قائماً وسط العمران.
ثم أكمل الكاتب كل المشهد العام بفنادق واستراحات ومحلات وكل ماتتطلبة خدمات الحجاج والمعتمرين ونقل أحياء المدينة إلى المساحات الخالية المحيطة التي زودها بشبكات سكة حديد بقطارات سريعة تسهل الوصول للحرم في أوقات الصلوات.
كل هذا قبل أن ينتقل للحديث عن أبطال العمل وشخصياته.
كانت هذه البداية مكتوبة قبل ما يقرب من عشر سنوات.. إلا أنني توقفت بحثاً عن الكثير من المصادر العلمية والهندسية المتعلقة بالأحياء والخرائط.. وأحبطني إحساسي بأن مثل هذا العمل سوف يجبرني علي الدخول في عالم (السينما) لمشاهدة عدد كبير جدا من الأفلام التي طرحت هذه الأفكار من قبل وبنت عوالم ومدن شديدة الحداثة.. ثم الخوض (الخطر) في خصوصية المكان وسكانه وعدم جعله منفصلاً عن البيئة المحلية وإطارها الشعبي.
توقفت بعد بناء الشخصيات لأن حضور المكان قوي وطاغ جدا لوجود بيت الله الحرام فيه.. وحاجة الوصف لأن ينتقل من بعده الافتراضي ليتخذ منحى واقعيا ًيموج بالحياة والحيوية التي نراها في مكة المكرمة.