لبنى الخميس
تاريخنا الإنساني حافل بالعديد من الأفكار بل وحتى الحقائق العلمية التي تم رفضها مثل كروية الأرض وحقيقة أنها ليست مركز الكون بل هي جرم صغير من فضاء مهول وفلك شاسع، بل وحتى الرسل والأنبياء عانوا من مراراة الرفض من أقوامهم، قبل أن تؤلف القلوب، وتحشد الصفوف، وتغزو رسائلهم العالم.
إحدى التجارب التي وقفتُ عندها طويلاً وفتحت عيني على أبعاد جديدة لفكرة الرفض هي تجربة Jia Jiang الذي عاش حياته محاولاً الهروب من أيّ احتمالية للرفض، حتى آثر أن ينفض عنه غبار الخوف، وينتفض أمام عقدته القديمة، حين قرر أن يخوض تحدياً صممه وأسماه تحدى الـ 100 يوم من الرفض، إذ يقوم التحدي على فكرة ابتكار وخوض 100 تجربة يسعى من خلالها لتلقي الرفض عمداً، مثل طلب سلفة بقيمة 100 دولار من شخص غريب، أو طلب إعداد حبات دوناتس على شكل شعار الأولمبيات، أو طلب تقييم مظهره من قبل العابرين في الشارع، أو الحصول على غرفة مجانية من فندق شهير، أو نشر مقال له في مجلة مرموقة.
الجميل في الموضوع أن jia لم يخرج من تجربته الفريدة بحزمة من الوجوه العابسة وأجوبة الرفض فحسب، بل أمدته هذه التجربة بخبرة نوعية في تحويل كل وجه عابس إلى آخر مبتسم، وبعض الـ«لاءات» الصارمة إلى «نعم.. ربما.. ولِمَ لا».. ولأن لا شيء يضاهي خبرة تلقي الرفض مئة مرة على التوالي، يمكننا أن نخلص من تجربة jia إلى عدة دروس وتقنيات للتحايل على الاعتراضات وانتزاع الموافقة بذكاء وحنكة.
فمثلاً قبل أن تستدير وأنتَ تجر أذيال الخيبة بعد تلقي الرفض.. أسأل لماذا..؟، فقد تكون الأسباب أبسط بكثير مما تتخيل، فحينما طلب «جيا» من رجل غريب زراعة نبتة في حديقة منزله وامتنع، ظن أن الرفض يتعلق به شخصياً، ربما لا يبدو بهيئة جيدة، أو أن الرجل عنصري تجاه عرقه، أو أن لهجته ليست جيدة كفاية. وعندما استجمع قواه وسأله لماذا.. جاءت الإجابة لتنفض عنه وساوسه، فالرجل يملكُ كلباً اعتاد على أن يعبث بكل ما يصادفه في الحديقة.. لذا يدركُ أن الكلب سيتلف النبتة لا محالة.
ثانياً، حاول وأنت تعرضُ طلبك أن تقرأ مخاوف الآخر والدوافع المتوقعة لرفضه، فكر في ما يمكن أن يمر في عقل الآخر مثل أن يكون توقيت طلبك غير مناسب، فمثلاً عندما طلب من مدير ستاربكس أن يقف بجانب باب المقهى لتحية الزائرين، استنكر المدير بدايةً طلبه، فما كان منه إلا أن يقرأ خوفه قائلاً: «هل تعتقد أن طلبي غريب من نوعه؟» ليشير بشكل أو بآخر إلى السبب الوحيد المحتمل لرفضه وهو «غرابة الفكرة» فما كان من المدير إلا أن يقبل!.
الرفض ليست حالة فردية ونادرة الحدوث، فهناك مؤسسات اكتسبت سمعة عالمية نظير سمة الرفض والتمنع الغالبة عليها كمرأة قوية وشهية يتهاوى أمام تمنعها الخطاب واحداً تلو الأخرى. فمقابل كل 7 % من المقبولين في واحدة من أعرق الجامعات في العالم كهارفارد، هناك 93 % يتلقون رسالة رفض كل عام. ولكن هل تنتهي حكاياتهم هنا؟..
حتماً لا، فالقائمة تزخر بأسماء لامعة من زعماء ورجال أعمال بل وحتى علماء حائزين على جائزة نوبل، لم تثنهم رسالة الرفض عن جعل حياتهم رسالة حية تزخر بدروس الإصرار ومعاني الصمود. مثل وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري، والمستثمر الأمريكي وثالث أغنى رجل في العالم وارن بافيت ومؤسس شبكة «سي ان ان» تيد تيرنر، بالإضافة إلى أخطبوط التجارة الإلكترونية جاك الذين تم رفضهم جميعاً من جامعة هارفارد.
أخيراً، بعيداً عن اللاءات الكبرى، هل فكرنا يوماً فيما نرفضه نحنُ في حياتنا اليومية؟.. وهل مر بنا خاطرٌ مفاده أن لنا يداً فيما نجنيه من إجابات الرفض، وعلامات عدم القبول؟.. هل نحنُ مقبلون على الحياة بما يكفي ليتعاضد الكونُ مع رغباتنا وتفتح لنا الحياة أبواباً عنوانها «نعم، موافق» أم أننا رافضون بطبيعتنا لكل ما لا نعتاده، لكل فكرة جديدة ولكل مشروع غريب، ولكل رأي لا يتسق مع قناعاتنا.. فنجذب اللا تلو الأخرى، والرفض إثر الآخر. إذا كانت إرادتنا في الحياة انعكاساً لتعاطينا مع إرادات الآخرين.. هل نحنُ منفتحون بما فيه الكفاية لنقول «نعم ..لِمَ لا».. ربما يستحق منا هذا السؤال.. وقفة ما.