يُعَدُّ الحج رحلة روحية ودينية طالبت به الأديان السماوية كافة على اختلاف أشكالها وأزمانها، وكان العرب قبل الإسلام بقرون عدة يحجون إلى مكة المكرمة ويؤدون مناسك الحج، وعندما جاء الإسلام أقرَّ بعض الشعائر، فهي من أساس العبادات وليس الحج إلى الكعبة إلا تعظيم لبيت من بيوت الله ورمز من رموز الأماكن المقدسة، فقد طهرها الإسلام من هذه الأوثان وجعلها رمزاً لعبادة الله وحده، وجعل ما فيها من شعائر ذكرى لأبينا إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام في سعيه وطوافه مما جعل المسلمون يسعدون بالهجرة إلى هذه الأماكن المقدسة في سبيل الله وتحمل كافَّة المشاق والمصاعب لمرضاة الله ومجاهدة النفس البشريَّة، وذلك من أجل التفرغ لعبادة رب العباد، حيث يجتمع الحجاج من كافَّة أقطار المعمورة في مكة المكرمة. وكان نبي الأمة محمد -صلوات الله وسلامه عليه- يحرص كل الحرص على الحج من مبدأ الإسلام لأنه يعتبر الحج ركناً من أركان الإسلام الخمسة وعبادة العمر وختام الأمر وتمام الإسلام وكمال الدين.
فالحج يحظى بفوائد عديدة، فالحاج إذا نوى السفر إلى الأماكن المقدسة من وطنه فقد استحضر أعماله واستذكر سيئاته وندم عليها وتهيأت نفسه لقبول الأعمال الخيرة، فكان في ذلك طهارة من ذنوبه وحسن استعداده لطهارة نفسه وقربها من الأعمال الطيبة، وبعدها عن أعمال الشر، فإذا تقدم إلى أعمال الحج المباركة فأول ما يواجهه الإحرام، وهو تجرد الحاج من كل ثوب ومخيط ويلبس إزاراً ورداء ويشرع بالتلبية قائلاً (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة، لك والملك، لا شريك لك). فالإسلام يريد في مثل هذا الموقف إشعار الناس بأنهم أمام الله سواء لا فرق بين غنيهم وفقيرهم، وهذا مظهر من مظاهر المساواة في الإسلام، ولا يزال الحاج في تلك الحالة بين إحرام وتلبية وتفكر في الله وتضرع إليه حتى يدخل مكة المكرمة وهو في تلك الحالة يرتاض رياضة بدنية إلى جانب الرياضة الروحية، فهذا العيش البسيط والملبس البسيط والحركة الدائمة والسفر ومتاعبه يجعل من الحاج رجلاً قادراً على تحمل المشاق والمتاعب غير منغمس في أبواب النعيم والترف.
فهو يخرج من هذه العبادة قوي الجسم قوي الروح معاً، فإذا تأمل تلك المشاهد التي أمامه وحوله ثارت في نفسه الذكريات عن هذا المكان فهذه مكة المكرمة التي كانت وادياً غير ذى زرع فقد هبط إليها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل عليه السلام سنة 1892 قبل الميلاد وأخذا يرفعان قواعد هذا البيت كما يقول الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} سورة البقرة (27-28)
وهذه هي مكة المكرمة التي أخذت شهرتها تنمو وتتسع شيئاً فشيئاً حتى قصدها الناس من كل فج عميق، وهذه مكة المكرمة التي سكنتها قريش واعتزت بما كان في يدها من مفاتيح الكعبة المشرفة.
فهى مكة التي ولد فيها نبي الأمة المحمدية صلوات الله وسلامه عليه في بيت من بيوتها وشعب من شعابها وقد قضى حياته فيها - وهو يدعو قومه إلى عبادة الله وترك عبادة الأوثان والاصنام
فقد أصبحت مكة المكرمة مقصد البشرية في حجهم منذ عهد - أبو الأنبيا إبراهيم عليه السلام حتى يومنا هذا - فهذه مكة التي يقصدها الحجاج من كل فج عميق فيرونها وادياً منحصراً بين سلاسل من جبال متصلة بعضها مع بعض قد عمرت سفوحها بالمساكن على أشكال متدرجة. كل هذه الذكريات الجميلة تملأ النفس وتأخذ بمجامع القلب وتدخلها في موسم الحج فترى عجباً أي عجب مئات الألوف من البشر في ثوب الإحرام مغمورون بالشعور الديني يعجون بالدعاء والتلبية بكافَّة الألسن كلهم يعبدون الله وحده كلهم يشعر نحو الآخرين بالأخوة الإسلامية هذه الأعداد الكبيرة من الحجاج يشع فيهم الحب والإخاء والمساواة والتعاطف والتعاون ويغمرهم شعور ديني نبيل يهز القلوب ويبعث الرحمة.
** **
- الرِّياض