عماد المديفر
تبرز أهمية الدبلوماسية الشعبية كدبلوماسية موازية غاية في الأهمية، بحيث يكون لها -ربما- الدور الأكثر فاعلية وتأثيراً، عند ظهور الأزمات، وخاصة في حالة قطع العلاقات الدبلوماسية، إذ تتحمل العبء الأكبر للمساهمة في تحقيق، أو الدفاع عن المصالح الوطنية، وأحياناً كثيرة تكون هي القناة الأكثر كفاءة لتبادل الرسائل ووجهات النظر، والدخول في المفاوضات الثنائية غير المباشرة عبر الفاعلين غير الرسميين من أفراد أو مؤسسات غير حكومية، تمهيداً لفتح الطريق أمام المفاوضات المباشرة بين الأطراف الحكومية المعنية، بعد خلق أجواء ملائمة من الفهم والتفهم..
بيد أن ما ينطبق على الحالة السعودية الكندية ليس قطع علاقات دبلوماسية -إذ العلاقات الدبلوماسية لا تزال قائمة- بقدر ما هو تخفيض لمستوى التمثيل الدبلوماسي من سفير إلى قائم بالأعمال، مع بقاء سفارتي البلدين بكامل أجهزتهما وموظفيهما تعملان كالمعتاد، مع إيقافٍ لأي تعاون اقتصادي أو تجاري مستقبلي بين البلدين، وهذه الإجراءات اتخذتها المملكة في معرض ردها الصارم على التعديات الكندية الرسمية الوقحة من خلال تصريحات غير مسؤولة أطلقتها وزيرة الخارجية الكندية عبر تويتر، ثم أعادت نشرها مترجمة إلى العربية سفارتهم في الرياض، في انتهاك فاضح لأهم وأبرز الأعراف والمواثيق الدولية، والتي قام عليها ميثاق الأمم المتحدة، والقرارات الأممية الصادرة ذات الصِّلة والتي نصت على أنه «ليس لأي دولة الحق في التدخل، بشكل مباشر أو غير مباشر، لأي سبب من الأسباب في الشؤون الداخلية أو الخارجية لأي دولة أخرى»، وما اتخذته المملكة لم يكن فقط بياناً بخفض مستوى التمثيل، بل أعلنت السفير الكندي شخصاً غير مرغوب فيه، وطلبت منه المغادرة خلال 24 ساعة، واستدعت سفيرنا في أوتاوا للتشاور، وهي دون شك رسالة دبلوماسية شديدة اللهجة، كان لها وقعها الصاعق بمعنى الكلمة على الحكومة الكندية، ثم ما أتبعته المملكة من إجراءات اقتصادية، جعلت الكنديين يستشعرون خطورة التصرفات الرعناء لمسؤوليهم الحكوميين والتي أضرت -دون أدنى داعٍ أو مسوغ منطقي مفهوم لدى العقلاء- أضرت بالمصالح الكندية وعلاقاتها مع دولة كبرى ذات ثقل دولي وازن، وإن حاول البعض -تبريراً- موضعة تلك التصريحات الكندية في خانة الدعاية الانتخابية، تمهيداً للانتخابات التشريعية الكندية المزمعة بعد أشهر، غير أن ردة الفعل السعودية جعلت الأمر يرتد بشكل عكسي ضد رغبة حزب الليبراليين الحاكمين اليوم، لصالح المعارضة المحافظة.. وهو ما جعل حكومة جاستن ترودو تدور حول نفسها، وتضرب أخماس في أسداس، هذا إذا سلمنا أن الأمر برمته ليس سوى دعاية انتخابية -كما يحاول أن يبرر البعض-، وليس أن للحكومة الكندية الليبرالية -ربما- علاقات مشبوهة مع عدد من الموقوفين السعوديين المتهمين في قضايا خطيرة تمس أمن الدولة، وهو الأمر الذي سيتضح بعد انتهاء التحقيقات.
وضمن هذا السياق، ودون سابق ترتيب -من قبلي على الأقل- حدث أن التقيت بدبلوماسي كندي في حلقة نقاش بحثية دعاني لها صديق وباحثٌ وطني عزيز بصفتي إعلامياً سعودياً وباحثاً في الدبلوماسية الشعبية، في إحدى الدول الشقيقة المجاورة، وذلك بعيد التصريحات الكندية الرعناء تجاه بلادي، وما ترتب عليها من استجابة سعودية حازمة وحاسمة، أقل ما توصف به أنها جعلت الحكومة الكندية في موقف لا تحسد عليه، إن أمام شعبها أو أمام المجتمع الدولي.. حتى أضحت بتصرفاتها تلك معزولة عن العالم، إذ لم يستطع حتى أقرب حلفائها أن يقرها على ما اقترفته من انتهاك فاضح لحرمة الأعراف والمواثيق الدولية، والتي تمس -كما أسلفت- مبدأً أساس من مبادئ القانون الدولي والميثاق التأسيسي للأمم المتحدة.
وقد التمست من حديث هذا الدبلوماسي الكندي حجم القلق، والاضطراب داخل ليس فقط منظومة وزارة الخارجية الكندية، بل داخل الحكومة الكندية برمتها، رغم محاولات ساستها إبداء المكابرة المصطنعة إعلامياً، والتي قلت له بأنها إذا ما استمرت؛ فستنعكس سلباً على الموقف الكندي المتردي بالأساس.
أكد لي بأن هذا الاعتقاد غير صحيح، وأن الحكومة الكندية حريصة كل الحرص على تصحيح هذا الوضع، وأنه في طور الرفع لمرجعه تقييمه للحالة التي تسببت بها تصريحات الخارجية الكندية، ويريد فهم الموقف السعودي بشكل أكثر وضوحاً، وأنه كدبلوماسي كندي يعرف تماماً المملكة، ويعد نفسه محباً لها، بل وممنوناً لها لأسباب أسرية شخصية أبداها لي، وللمصادفة أنها تتعلق بـ «حقوق الإنسان» وعناية المملكة بها كواجب ليس فقط أخلاقي وإنساني، بل ديني.. ولم آخذ منه الإذن بنشرها، لذلك احتفظ بها.. ورغم محاولاته إظهار رباطة الجأش، شعرت من حديثه حجم الارتباك لديهم، خاصة مع اقتراب موعد الدورة العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة المزمع انعقادها في النصف الثاني من سبتمبر/ أيلول المقبل، والتي شعرت منه أن الحكومة الكندية لا تريد أن تأتي هذه المناسبة دون حل لهذا الأزمة، والتي تسببت بها هي وحدها دون غيرها.
«إنها تغريدات غير محسوبة العواقب» يقول الدبلوماسي الكندي، قلت له: «لم تكن مجرد تغريدات كما تحاول أن تقلل منها يا صديقي.. بل خطأ فادح، لا يقع فيه دبلوماسي صغير عديم الخبرة، قليل اللياقة واللباقة، فضلاً عن وزيرة خارجية.. وزاد الأمر وقاحة ورعونة ما قامت به السفارة الكندية بالرياض عبر حسابها في تويتر».. قال: «نعم أنا أتفهم موقف الحكومة السعودية» قلت له: «الشارع السعودي جميعه غاضب عن بكرة أبيه، وليس فقط المسؤولين.. وأنا أتحدث إليك كمواطن سعودي، وأنقل لك نبض الشارع» أجاب: «بالفعل.. واضح جداً أنه تصرف غير صحيح، ولا أدري ماذا دعانا للانزلاق لذلك.. ولا أخفيك بأننا نبحث عن حل لهذا الإشكال.. لكن هناك مواقف أوروبية مشابهة حول حقوق الإنسان في المملكة»، فرددت عليه: «أبداً..! ها أنت تقع في خطأ آخر! فما تعنيه مواقف فردية شخصية من إعلاميين أو برلمانيين.. وليست مواقف دول.. ما صدر من كندا موقف رسمي.. وكان يستدعي رداً رسمياً وهو ما تم.. ثم إن هؤلاء الموقوفين متهمون إما في قضايا إرهاب أو قضايا أخرى تمس أمن الدولة، والأمر الآخر الذي يستعصي على الفهم، هو أين تصريحات ومواقف المسؤولين الكنديين والحكومة الكندية تجاه انتهاكات إيران لحقوق الإنسان.. مواطنة كندية انتهكت حقوقها وكرامتها، وسجنت وعذبت، وماتت مؤخراً في سجون الملالي ولم نر موقفاً رسمياً كندياً جاداً واحداً تجاهها؟! أين موقف حكومتكم من جرائم حزب الله الإرهابية؟ ومن انتهاكات نظام بشار الأسد التي تصنف كجرائم حرب؟! أينكم عما حدث في تركيا من سجنٍ لما يزيد عن المائة ألف إنسان، ما بين طبيب، ومعلم، وصحفي وخلافة.. ربعهم من النساء.. بحجة مسرحية الانقلاب المزعوم؟!»
أبدى الدبلوماسي الكندي تفهمه لكل ما ذكرته، يقول:»معك الحق في كل ما ذكرت» فأردفت: «لاحظ أنهم مواطنون سعوديون.. وحتى لو كانوا مواطنين كنديين، فإن عليهم احترام أنظمة وقوانين البلد الذي يقيمون فيه.. وعلى الرغم من ذلك.. لو كانوا كنديين لربما أمكن فهم هذا الاندفاع الخطير غير محسوب العواقب..» الواقع أني لم أهدئ أبداً من روع هذا الدبلوماسي الكندي، بل أعطيته الصورة كاملة بكل شفافية.. أكمل الأسبوع المقبل. إلى اللقاء.