د.خالد بن صالح المنيف
للحفلاتِ أنواعٌ وأشكالٌ؛ فثمة حفلةُ زواج، وحفلةٌ لنجاح، وحفلةٌ ثالثة بعد الشِّفاء من مرض، وهناك مَن يقيمُها إذا عاد له حبيبٌ من سفرٍ بعد طول غياب.. وغيرها من الحفلاتِ، ولكنَ هناك حفلاتٍ من نوع آخر؛ ألا وهي حفلاتُ الرّثاء للنَّفس (self - pity)، وهي حفلاتٌ سيئة السُّمعة؛ لأنها تُقام بلا مناسبةٍ وبلا مدعوّين! وهي ليسَت على نسق ما فعله مالكُ بن الرّيب عندما دنَت منيَّتُه وشارفَت حياتُه على الرحيل، عندما رثى نفسَه بقصيدة خالدة مشجية قال في بعض أبياتها:
يا صاحبَيْ رحلي دنا الموتُ فانزِلا
برابيةٍ إنّي مقيمٌ لياليا
أقيما عليَّ اليومَ أو بعضَ ليلةٍ
ولا تُعجلاني قد تَبيَّن شانِيا
ولكن الكارثة هو ما يمارسُه البعض من تفنُّن عجيب في إقامة حفلاتِ الإشفاق على الذَّاتِ! فترى أحدَهم كثيرَ الرّثاء لنفسه وهو الصحيحُ المُعافى؛ فيقيمَ على نحوٍ مستمرٍّ حفلاتٍ صاخبة لرثاء الذاتِ داخل نفسه، يندب فيه الحظَّ ويشتم الظروفَ.
شعور رتيبٌ بالرثاء وتعزية النفس!
شَركٌ خطير وحلٌ كارثيٌّ.. ونتائج مخيبة!
وربما يتولى مَن حولنا مَهمَّة إقامة حفلاتِ الرثاء للنفس لنا إذا ما إذا أخفقْنا في تجربةٍ أو فاتتْنا فرصةٌ أو أحاط بنا همٌّ مِن حولِنا!
ومن هذا ما فعلت أمٌ عندما تطلَّقَت إحدى بناتها؛ فأقامَت عليها مأتمًا وعويلاً!
ما أضعفَ حظَّكِ، ورداءة بختَكِ!
هل مثلُك تُطلَّقُ؟
ومَن سيتزوجكِ بعد طلاقكِ!
آه يا بنيتي على جمالكِ وطيبة قلبكِ!
فتَدفنُ ابنتَها وهي حيَّةٌ، وتقطَع في روحها شريانَ الأمل والتفاؤل بهذا الأسلوب السَّقيم!
وفات على هذه الأمِّ أنَّ أعظمَ ما تقدِّمه لابنتها هو العملُ على تقويتها بفتْح نوافذ الأمل لها وإنعاش روحِها، لا إضعافها بحفلة رثاء!
اسقوا دائمًا بذرةَ الأمل في قلبِ كلِّ محزونَ وفي روح كلِّ مهموم؛ فالحياةُ لا تتوقفُ والفُرصُ لا تموت!
عندما يشعرُ الإنسان بشعور الإشفاق على الذات فإنه يفقد قدرتَه على العطاء، وتتهاوى أسلحتُه اللازمة لإكمال معركة الحياة، وسيتنازل عن حقِّه في أنْ يكونَ ناجحًا، وسيمكِّن الآخرين -وخصوصًا أعداءه- منه!
البعضُ لم يُدرِك أنَّ الحياة ليست ممهَّدة الطرقِ، وصافيةَ الودِّ على الدَّوام!
فيومٌ لنا ويومٌ علينا
ويومٌ نُساءُ ويومٌ نُسَرُّ!
والكثيرُ يقيم هذه الحفلة المشؤومة -حفلةَ رثاء النَّفس- لاستدرار الشَّفقة واستجلاب الرَّحمة من الآخرينَ! وفات على تلك العقلية أنَّ القدْر الذي يهيئه لك الآخرونَ من شفقتهم تفقده ضِعفَه من احترامهم!
جهود عظيمة نبذلُها وكذلك مَن حولنا في صناعة حفلاتٍ (باذخة) للرثاء! ملؤها يأسٌ وحسراتٌ، وقتْلٌ للحياة!
يقول (جونَ جاردنر): «الشُّعور بالإشفاق على الذاتِ هو أحدُ أكثر المسكِّناتِ غير العلاجية تدميرًا! فهو قابلٌ للإدمان، ويُعطي شعورًا لحظيًّا بالسَّعادة»!
والبشرُ يلجؤونَ لإقامة تلك الحفلاتِ (السَّيئة السُّمعة)، حفلاتِ الإشفاق على الذاتِ لعدة دوافع منها: تسوُّل عطْف وشفقة الآخرين، فدور (البائس) ربما يمكِّن صاحبَه من كسب الحنان، وتلقّي بعض كلماتِ التعاطف، وهناك من يلجأ لإقامة تلك الحفلة ليتهرَّب من المسؤولية ويُعفي نفسَه من القيام بواجباته، فعندما يخبر الموظفُ مديرَه بأنَّ أوضاعَه الأسَرية سيئة فكأنما يطلبُ منه أنْ يغضَّ الطَّرْف عنه ويخفض مِن سقْف توقُّعاتِه تجاهه، والبعض يظنُّ مع تلك الحفلاتِ كأنما هو يستدعي الحلولَ وتغيُّر الأمور مع كثرة الشكوى، وتلك طريقةٌ ساذجةٌ فالأحوال لن تتغير، والظلمُ لن يرتفع معها، والحقُّ لن يأتي.
ومتعهدو إقامة حفلاتِ الرثاء على النَّفس لهم بعض السِّماتِ منها:
1 - يفكِّرونَ دائمًا، وعلى نحو مستمرٍّ أنْ لا أحدَ يعاني مثل معاناتهم في بيئتهم، وربما توسَّعوا في هذا التفكير وظنوا أنْ لا أحدَ على وجه الأرض قد قاسى الألمَ مثلهم!
2 - دائمًا ما يحمِّلونَ الحظَّ السيئَ المسؤوليةَ في رداءة أوضاعِهم وتدنِّي أحوالهم.
3 - لديهم قناعة أنَّ المصائبَ تنجذبُ إليهم وأنهم تتوالى عليهم دونَ غيرهم ولديهم شعورٌ أنَّ المصائب لن تتوقَّفَ عن حياتهم! ولا شيءَ أقتلُ للرُّوح، ولا أضيع للحياة من الاعتقاد بأنَّ الوضع السيئ دائمٌ، وأنَّ الموقفَ الموجعَ باقٍ إلى ما لا نهاية!
4 - يصرِّحونَ بعدم وجود مَن يفهمُهم أو يفهمُ مدى الألم التي يعانونَ منه، والصعوباتِ التي يواجهونها.
5 - لا يجري على ألسنتهم إلَّا التحدثُ عن الأشياء السلبية في يومه خصوصًا، وفي حياته عمومًا، وقدرتهم على استحضار جميل الأشياء، وطيب الأمور شبه معدومة.
6 - يعتقدونَ أنَّ الكلَّ سعيدٌ ومرتاحٌ، وفي بحبوحة من العيش، وفي هناء زوجيٍّ ووظيفيٍّ وصحيٍّ إلا هُم، وما استوعبوا أنَّ السّعيد لاَ يَملك كلَّ شَيء، ولَكنه يَسعدُ بأَيِّ شَيء يَملكُه.
وبعد هذا، هل تجلّى لنا خطورةُ ممارسة حيلة الرثاء للنفس، وأثرُه ا على تعطيل الحياة؟ سأحدثُكَ الأسبوع القادم عن خطواتٍ عملية تضمن لك عدمَ إقامة تلك الحفلاتِ!