بَعْضُ الناسِ يُعامِلونَ الحَياةَ بِبُرودٍ وعَدَمِ مُبالاةٍ، إنَّهم يَعيشونَها كَما يُؤدونَ واجِبًا ثَقيلًا عَلى نُفُوسِهِمْ، واجِبًا فَرَضَتْهُ الظُّروفُ عَلَيْهِمْ؛ لا يُحِبُّونَهُ، ولَكِنَّهُمْ لا يَسْتَطيعونَ الهُروبَ مِنْهُ.
بَعْضُ الناسِ يُجامِلونَ الحَياةَ كَما يُجامِلُ مُوَظَّفٌ صَغيرٌ رَئيسًا قاسِيًا لا يَرْحَمُ؛ لَعَلَّهُ بِهَذِه المُجامَلَةِ يُخَفِّفُ مِنْ قَسْوَتِهِ وعُنْفِهِ.
وبَعْضُ الناسِ يَرْفُضونَ الحَياةَ ويُعامِلونَها باسْتِهتارٍ واسْتِهانَةٍ ويُوَدُّونَ دائمًا أنْ يَتَخَلَّصوا مِنْها، فَهُمْ لا يَرَوْنَ لَها مَعْنًى ولا قيمَةً.
ولَكِنَّ هُناكَ نوعًا آخَرَ مِنَ الناسِ يُحِبُّ الحَياةَ ويُقبِلُ عَلَيْها، ويَأخُذُها بالحُضْنِ، إنَّها بالنِّسْبَةِ لَهُ مُشَوِّقَةٌ حَبيبَةٌ، كُلُّ ما فيها جَميلٌ وعَذْبٌ، لَيْسَ فيها قُوَّةٌ وضَعْفٌ، أوْ جَمالٌ وقُبْحٌ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ فيها قَوِيٌّ وجَميلٌ لأنَّه «حَيٌّ»، فالحَياةُ مُجَرَّد الحَياة، رائع! إنَّه يأكُلُ بِنَهَمٍ، ويُحِبُّ بِنَهَمٍ، ويُغَنِّي دائمًا كأنَّه اسْطُوانَةٌ خَلَقَتْها الطَّبيعَةُ وسَجَّلَتْ عَلَيْها أصْواتَ العَصافيرِ والبَلابِلِ. وهُوَ عِنْدَما يَحْزَنُ إنَّما يَحْزَنُ بِنَهَمٍ أيْضًا، إنَّه يَغْرَقُ في الحُزْنِ حَتَّى قِمَّةِ رأسِهِ.
وبالنِّسْبَةِ لِهَذا النَّوْع الذي يأخُذُ الحَياةَ بالحضْنِ لا يوجَدُ مُخطئونَ ولا عُصاةٌ، لا يوجَدُ إنْسانٌ غَريبٌ، كُلُّ الناسِ كائناتٌ جَميلَةٌ، وكُلُّ الحالاتِ البَشَرِيَّةِ حالاتٌ مَقْبولَةٌ، وكُلُّ إنْسانٍ قَريبٌ إلى القَلْبِ؛ ذَلِكَ لأنَّ رائحَةَ الحَياةِ تُثيرُ هَذا النَّوعَ مِنَ الناسِ، تَدْفَعُ الدَّمَ إلى العُروقِ وتَمْلَأ القَلْبَ بالعاطِفَةِ.. ويُرَدِّدُ اللِّسانُ صَلَواتٍ جَميلَةً. إنَّ أجْمَلَ ما نَتَعَلَّمُهُ مِنْ هَذا الفَنَّانِ الذي يَحْتَضِنُ الحَياةَ ويُقْبِلُ عَلَيْها «بِنَفْسٍ مَفْتوحَةٍ» هُوَ أنْ نَتَقَبَّلَ الحَياةً، وأنْ نَعيشَها بشَجاعَةٍ كَما عاشَها هَذا الشاعِرُ.
والشجاعَةُ هُنا هِيَ أنْ نَبْحَثَ عن المَعْنى الإيجابِيِّ في التجارِبِ التي نَعيشُها، فالفَشَلُ الذي يُواجِهُنا أحْيانًا، والصَّدماتُ التي تَتَعَرَّضُ لَها نُفوسُنا يَجِبُ ألَّا تَجْعَلَنا نَفْقِدُ القُدْرَةَ عَلى مُواصَلَةِ الطَّريقِ والرَّغْبَةِ في الاسْتِمرارِ.. إنَّ تَقَبُّلَ الحَياةِ يَحْتاجُ إلى نَفْسِيَّةٍ مُتَفَتِّحَةٍ حَيَّةٍ، وهَذِهِ النَّفْسِيَّةُ هِيَ التي يُمْكِنُ أنْ تَرى في الفَشَلِ خُطْوَةً إلى النَّجاحِ، وفي الألَمِ طَريقًا إلى السَّعادَةِ، والذين لَمْ يوهَبوا هَذِهِ النَّفْسِيَّةَ المُتَفَتِّحَةَ يَسْتَسْلِمونَ مِنْ أوَّلِ تَجْرِبَةٍ، فَيَتَسَرَّبَ إلَيْهِمْ الضيقُ بالحَياةِ والإحْساسُ بأنَّها لا تُطاقُ، أو تَمْتَلِئَ نُفوسُهُمْ بالحِقْدِ والمَرارَةِ فَلا يَسْتَطيعونَ أنْ يَتَعاطَفوا مَعَ أيِّ شَيْءٍ جَميلٍ في هَذا العالَمِ.
إنَّ شجاعَةَ الحَياةِ التي يَدْعونا إلَيْها هَذا الفنَّانُ تَعْتَمِدُ عَلى التَّسامُحِ واتِّساعِ الذِّهْنِ والعاطِفَةِ، إنَّها لا تَقومُ عَلى المَرارَةِ والحِقْدِ واسْتِصْغارِ شأنْ أيِّ كائن في هَذا الوُجودِ مَهْما كانَ بَسيطًا عادِيًّا.
فَنَحْنُ أحْيانًا نَضيقُ بالناسِ العاديِّين ونَقيسُ الفَرْدَ بِمَدى نَجاحِهِ في الحَياةِ ومَدى تَفوُّقِهِ، ولَكِنَّ هَذا الفنَّانُ يَدْعونا إلى الحُبِّ الشامِلِ، إلى احْتِرامِ الحَياةِ في أبْسَطِ مَظاهِرِها وأقَلِّها أهَمِّيَّةً، والنَّظَر إلى الإنْسانِ بعاطِفَةٍ تَغْفِرُ كُلَّ شَيْءٍ ولا تَعْرِفُ اللَّوْمَ والتأنيبَ أبَدًا، إنَّه لايَنْظُرُ إلى الإنْسانِ بِتِلْكَ العاطِفَةِ التي تَنْقُدُ دائمًا، وتَشْعُرُ بِعَداءٍ مُسْتَمِرٍّ لِلْحَياةِ.