طالَما قالَتْ لَكَ الوَصايا الأخْلاقِيَّة: أحَبِبْ جارَكَ.. أحْبِبْ إخوانَكَ.. أحْبِبْ وَالدَيْكَ.. أحْبِبْ عَمَلكَ..
وكُلُّ هَذا حَقٌّ..
بَيْدَ أنَّني أريدُ أنْ أسْبِقَ كُلَّ هَذِهِ الوَصايا بِوَصيَّةٍ أخْرى، هي: «أحْبِبْ نَفْسَكَ»!
أجَلْ.. أحْبِبْ نَفْسَكَ.. أحْبِبْها دَوْمًا وَأحْبِبْها كثيرًا.. فَما لَمْ يَجْمَعْكَ بِها حُبٌّ عَظيمٌ، فَلَنْ تَكونَ أبَدًا مُحِبًّا، وَلَنْ تَكونَ قَطُّ مَحْبوبًا.!
قَدْ يَبْدو هَذا الحَديثُ غَريبًا، إذْ طالَما ظَنَنَّا أنَّ العَكْسَ هُوَ الصَّحيح، حَتَّى لَقَدْ وَضَعَ أدَبُنا الشَّعْبِيُّ، وَأمْثالُنا السَّائرةُ حِكْمَةً تَقولُ: «مَنْ أحَبَّ نَفْسَهُ كَرِهَهُ رِفاقُهُ».
لَكِنَّ الحَقَّ، أنَّ مَنْ أحَبَّ نَفْسَهُ أحَبَّ رِفاقَهُ وَأحَبَّهُ رِفاقُهُ؛ لأنَّ الَّذي يُعطِي، هُوَ الَّذي يَمْلِكُ. وَالعاجِزُ عَنْ حُبِّ نَفْسِهِ، هُوَ عَنْ حُبِّ غَيْرِهِ أشَدُّ عَجْزًا!
وَصَدَقَ أفْلاطون حينَ قالَ: «إنَّ أشَقَّ أنْواعِ الصَّداقاتِ كافَّةً، صَداقَةُ المَرْءِ لنَفْسِهِ»!
وَلَقَدْ مَرَدْنا عَلى اعْتِبارِ حُبِّ النَفْسِ، وَالأنانِيَّةِ وَجْهيْن لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وهَذا ظُلْمٌ مُبينٌ.
فَالحُبُّ.. ما الحُبُّ؟!
إنَّهُ نَشاطٌ بَهيجٌ تُعبِّرُ بِهِ الرُّوحُ عَنْ نَفْسِها..
إنَّه رَغَباتُنا في حالَةِ تَشوُّفٍ وَحُبُورٍ..
فَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ خارِجًا عَنْها؟
كَيْفَ نَمْنَحُهُ غَيْرَنا، وَنَمْنَعُهُ أنَفْسَنا؟!
إنَّنا نُحِبُّ الأشْياءَ الَّتي نَرْغَبُها، وَنَجِدُّ في التَّعَلُّقِ بِها مُعاناةً مُمْتِعَةً، وَفي الفَوْزِ بِها سَعادَةً فائقَةً؛
فَنَحْنُ إذًا نُحِبُّ أنْفُسَنا، وَنحْيا لأنْفُسِنا.
فإذا قيلَ لَنا: أحِبّوا أنْفُسَكُمْ، كانَ هَذا الاسْتِهلالَ الرَّشيدَ، لِكُلِّ حُبٍّ رَشيدٍ.
وَحُبُّكَ لِنَفْسِكَ مُخْتَلِفٌ عَنِ الأنانِيةِ اخْتِلافًا كَبيرًا؛ فالأنانِيَّةُ لَيْسَتْ حُبًّا أبَدًا، إنَّما هِيَ تَعَصُّبٌ، وَانْطواءٌ، وَغُرورٌ، بَيْنَما يَتَضَمَّنُ دائمًا التَّسامُحَ، وَالإيثارَ، وَالفهْمَ.
أحْبِبْ نَفْسَكَ؛ لتَسْتَطيعَ أنْ تُحِبَّ الآخرينَ.
أحْبِبْ نَفْسَكَ، وَلا تَمْقُتْها؛ فالَّذينَ يَمْقُتونَ أنْفُسَهُمْ يَتَحَوَّلونَ إلى طَلَقاتٍ مَقْذوفَةٍ في حَرْ بٍ أهْلِيَّةٍ!
وَما أظَنُّكَ سائلي: وكَيْفَ أحِبُّ نَفْسي؟
فأنْتَ تُحِبُّها فَعْلًا، وَلَسْتُ بِدَعْوَتي إيَّاكَ إلى حُبِّها، أدْعوكَ إلى إيجادِ ما لَيْسَ مَوْجودًا.. إنَّما أدْعوكَ إلى تَنْمِيَةِ هَذا الحُبِّ الَّذي بَرَأ اللهُ علَيْهِ كُلَّ حَيٍّ، وَأدْعوكَ إلى تَرْشيدِهِ وَرِعايتِهِ؛ كَما يَرْعى الأبُ طِفْلَهُ النَّضِرَ، وَكَما يَتَعَهَّدُ البُسْتانيُّ الحاذِقُ بَراعِمَ الحَديقَةِ وَوُرودَها!
وَأوَّلُ التِزاماتِكَ تِجاهَ حُبِّكَ نَفْسَكَ، أنْ تَعْرِفَ قيمتَكَ فأنْتَ -أيُّها الصَّديقُ- إنْسانٌ طَيِّبٌ.
مَهْما تَكُنْ عَثَراتُكَ وَأخْطاؤكَ، فأنْتَ إنْسانٌ طَيِّبٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فيكَ إلَّا رَغْبَتُكَ المُلِحَّةُ في أنْ تَكونَ أفْضَلَ مِمَّا أنْتَ، لَكَفاكَ هَذا.
إنَّ عَوامِل الشَّرِّ الكامِنَةَ في أنْفُسِنا، وَالمُنْتَشِرَةَ حَوْلَنا، تُطارِدُ نَوازِعَ الخَيْرَ، وَتَتَحَداها في إصْرارٍ، وَمَعَ هَذا، فَفِي أعْماقِنا دائمًا نُزوعٌ إلى الخَيْرِ، وَحَنينٌ إلى الكَمالِ، وَمُحاوَلاتٌ تَكْبو مَرَّةً، وَتَنْهَضُ مَرَّاتٍ.
فَلا تَكُنْ بَاخِعًا نَفْسَكَ عَلى عَثَراتِها.
ناقِشْ نَفْسَكَ في أخْطائها، لَكِنْ لا تَمْتَهِنْها.
الْوِ زِمامَها عَنِ السُّوءِ، لَكِنْ لا تَضْطَهِدْها!
إنَّ أكْثَرَ الَّذينَ يُضْمِرونَ لِلنَّاسِ العَدَاوةَ وَالحِقْدِ، إنَّما يَصْدُرونَ عَنْ خَرابٍ داخِلِيٍّ في أنْفُسِهِمْ الَّتي كَرِهوها وَاضْطهَدوها!
فإذا أرَدْتَ أنْ يَجِدَ النَّاسُ مِنْكَ السَّلامَ وَالصَّداقَةَ، فَابْدَأ بِأنْ تَمْنَحَ نَفْسَكَ سَلامًا وَصَداقَةً؛ فَإنَّ العالَمَ لَنْ يَتَلَقَّى مِنْكَ إلَّا ما تَعْكِسُهُ علَيْهِ حَياتُكَ الباطِنَةُ، وَسُلوكُكَ النَفْسِيُّ.
أمَّا إذا سَلَبْتَ نَفْسَكَ راحَتَها، فَقَدْ يُرَشِّحُكَ ذَلِكَ لِمَنْصبٍ كَبيرٍ بَيْنَ الأشْقياءِ الَّذينَ يَسْلِبونَ الدُّنْيا راحَتَها!
إنَّ نَفْسَكَ جَديرَةٌ بِحُبِّكَ وَبِاحْتِرامِكَ؛ لأنَّها لَيْسَتْ ذَرَّةً تائهَةً في خَواءٍ، بَلْ هِيَ حَلقَةٌ ثَمينَةٌ في سِلْسِلَةٍ الكيانِ الإنْسانيِّ، هِيَ عَضَلَةٌ عامِلَةٌ مِنْ عَضَلاتِ القَلْبِ البَشَرِيِّ!
وإذا وَقَفْتَ أمامَ المِرآةِ لِتُصْلِحَ هِنْدامَكَ؛ فَاذْكُرْ أنَّكَ تُبْصِرُ في المِرآةِ كائنًا سِحْرِيًّا تَمَثَّلَ فيهِ كُلُّ خَصائصِ النَّوْعِ الإنْسانيِّ بِجَميعِ بؤسِهِ، وَجميعِ عَظَمَتِهِ!
** **
- خالد محمد خالد