د. محمد بن يحيى الفال
قبل اثنين وعشرين عاماً خلت ومع انطلاق قناة الجزيرة الفضائية من الدوحة العاصمة القطرية، وتحديداً في الأول من شهر نوفمبر لعام 1996، ومع اتضاح خطها التحريري الذي كان مشابهاً إلى حد كبير مع الخط التحريري لهيئة الإذاعة البريطانية وخدمتها العربية الإذاعية الموجه للعالم العربي والشهيرة بإذاعة «هنا لندن»، فقد كثرت التساؤلات بين المتخصصين في عالم الإعلام والاتصال وكذلك بين عامة الناس حول الأسباب الكامنة من وراء قيام دولة قطر بإطلاق قناة الجزيرة الإخبارية من أراضيها وبميزانية ضخمة جدا، وهي الدولة التي لم يمض على حصولها على الاستقلال من بريطانيا سوى بالكاد ستة وعشرين عاما وذات المساحة الصغيرة وعدد السكان الذي لم يتجاوز المائة ألف نسمة من مواطنيها وقت إطلاق القناة. كثرت التخمينات حينها حول الأسباب الحقيقة من وراء إطلاق دولة قطر لقناة الجزيرة والتي كان أحداها هو بأن قطر ليست سوى دولة مقر وبأن الجهد الحقيقي تقف من وراءه قوى استخبارية لدول متنفذة هدفها في المحصلة النهائية إحداث تغير جذري في العالم العربي سواء فيما يتعلق بقضاياه المصيرية أو بأنماط تفكير ساكنيه نحو نظمهم السياسية وكذلك تغير خارطة دوله وهو الذي عُرف اصطلاحا بالشرق الأوسط الجديد.
ومع مرور الوقت وانشغال الناس بأحداث جمة ضربت المنطقة والعالم كأحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تبعه من تدخل أمريكي في كل من أفغانستان والعراق، فقد تم تناسي وفي خضم هذه الأحداث التساؤلات الكبيرة والمهمة حول الأسباب الحقيقة من وراء إطلاق قناة الجزيرة القطرية إلى أن جاء ما يسمى بالربيع العربي ليضع النقاط على الحروف حول الدور الخطير الذي تقوم به قناة الجزيرة القطرية منذ البدايات الأولى لبثها في محاولات لا تعرف الكلل أو الملل لإعادة تشكيل الرأي العام العربي نحو العديد من القضايا المصيرية لشعوبه. وحتى لا يكون هذا الاتهام للدور التخريبي لقناة الجزيرة القطرية بلا قرائن تثبته فمن المهم توضيح العديد من القرائن والبراهين سواء النظرية منها أو العملية لبيان الدور الذي تقوم به القناة في تخريب وتدمير العالم العربي.
من الناحية النظرية فمن الواضح أن القائمين على قناة الجزيرة القطرية استخدموا منهجية مقدرة وسائل الإعلام في التأثير على الرأي العام نحو مختلف القضايا التي يتم طرحها وذلك من خلال أدبيات وأطروحات الرأي العام ونظرية ترتيب الأولويات (Agenda Setting)، وفيما يتعلق بالرأي العام وعلاقته بوسائل الإعلام فلعل خير من تحدث عن ذلك هو الصحفي والمعلق السياسي الأمريكي الشهير والتر ليبمان Walter Lippmann))، في كتابه» الرأي العام» والذي يعد من أشهر الكتب عن آليات التأثير على الرأي العام والذي مازال مرجعاً أساسياً لعلم الرأي العام، وأكد ليبمان في كتابه بأن الصورة الذهنية التي تنقلها وسائل الإعلام تتسم بالزيف في غالب الأحيان خصوصاً عندما تهدف لتشكيل رأي عام نحو قضية ما. مقدرة وسائل الإعلام على التزييف كما كتب ليبمان أكدته البروفسوره إليزابيث نيومان(Elisabeth Noelle-Neumann)، المفكرة الألمانية وأحد ايقونات دراسات العلوم السياسية وأشهر من كتب عن الإعلام والاتصال الجماهيري، وذلك بقولها إن السبب في تقدم ليبمان على غيره من كتاب القرن العشرين فيما يخص أطروحاته حول الرأي العام هو بسبب واقعيته وافتراضاته الحقيقة وتفهمه للعواطف الإنسانية، وبأن ما جعله متفوقا على غيره ممن كتب عن الرأي العام كونه مارس الصحافة طوال حياته، وهو الأمر الذي مكنه من مشاهدة الفرق بين ما يدركه الإنسان بنفسه وبين من ما يدركه عن طريق وسائل الإعلام. هذا فيما يخص مقدرة وسائل الإعلام في تشكيل الرأي العام خاصة في القضايا السياسية وفيما يخص نظرية ترتيب الأولويات (Agenda Sitting) فتفترض هذه النظرية بأن وسائل الإعلام لا يمكنها الخوض في كل القضايا أو الأمور التي تخص الناس وعليه فإنها تركز على أكثر القضايا أهمية بالنسبة لهم. وتعود الجذور الأساسية لهذه النظرية لكتابات ليبمان عن الرأي العام وليتم تطبيقها عملياً من خلال دراسة تاشبل هيل «Chapel Hill» وهي مدينة أمريكية تقع بولاية كارولاينا الشمالية، حيث أجريت الدراسة على عينة من سكانها خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 1968 والتي جرت بين كل من مرشح الحزب الجمهوري ريتشارد نيكسون ومرشح الحزب الديمقراطي هيبرت همفيري، وفاز بها نيكسون، ووضحت الدراسة التي أجريت على عينة عددها 100 من الناخبين في مدينة تاشبل هيل من قبل كل من عالمي الاجتماع الأمريكيين ماكس ماكوبس (Max McCombs) ودونالد شو (Doald Show) بأن هناك تأثير كبير لوسائل الإعلام في ما يخص القضايا السياسية. ولو ربطنا بين المحتوى التحريري لقناة الجزيرة القطرية وبين ما تم توضيحه من مقدرة لوسائل الإعلام على تشكيل الرأي العام ووضع أولويات يتم بثها والتركيز عليها باستمرار لرأينا كيف اضحت هذه القناة التي اتبعت أسلوب الأدلجة الهادف إلى تغير أسلوب تفكير المجتمعات العربية من خلال استخدام العاطفة وتأجيجها بالتكرار المستمر للقضايا المراد إحداث تغيرات جوهرية فيها وذات أهمية بالغة لغالبية الرأي العام في العالم العربي وذلك من خلال ثلاثة محاور منها السياسي المتمثل في القضية الفلسطينية، والديني والمتمثل في الخلاف المذهبي بين السنة والشيعة، والاجتماعي والمتعلق بقضايا الفساد والبطالة في العالم العربي. في المحور السياسي وضح أن القناة ومنذ بدايات بثها سعت لتطبيع علاقات الشعوب العربية مع إسرائيل من خلال إجراء الحوارات مع المسئولين الإسرائيليين حول الصراع العربي الإسرائيلي، وجعل تواجد المسئولين الإسرائيليين على شاشتها وفي كافة البيوت العربية من المحيط إلى الخليج أمراً طبيعياً تكون نتيجته مع الوقت القبول بهم بدون أي مقابل للطرف المتضرر من الصراع وهو الفلسطينيين. ولعل العجيب هنا والمُشاهد بأن قناة الجزيرة تقيم الدنيا ولا تقعدها إذا قام شخص أو جهة عربية في غالب الأحيان غير رسمية بالاتصال بالإسرائيليين والحوار معهم، جاعلة نفسها الوكيل الحصري للتواصل معهم وإذا قام غيرهم بذلك فهو خيانة. وفيما يخص أدلجة المحور الديني نرى الخط التحريري لقناة الجزيرة واضحاً وجلياً في ما قامت به من تأجيج للنعرات الطائفية والمذهبية والتي كانت العراق ساحته الرئيسة وهو مما نتج عنه أن تقوم الحكومة العراقية ممثلة بهيئة الإعلام والاتصالات العراقية بغلق مكتب قناة الجزيرة في بغداد بتهمة تحريضها على العنف والطائفية. ولعل المصيبة والطامة الكبرى التي ما زلنا نشاهدها وعاصرنا أحداثها المفجعة والأليمة نراه في المحور الاجتماعي والمتمثل في أدلجة قناة الجزيرة لقضايا الفساد والبطالة في العالم العربي وهي قضايا لا تخلو منها أي دولة من دول العالم بما في ذلك الدول الكبرى، ولعبت قناة الجزيرة القطرية دوراً في غاية الشر وغياب ليس فقط للمهنية بل وحتى للقيم الإنسانية وكانت نتائج ذلك كارثية بكل ما تعنيه الكلمة وتمثل ذلك فيما أُطلق عليه الربيع العربي الذي خلف من ورائه وما يال أكثر من مليون قتيل وعدد لا حصر له من الجرحى والمعاقين وملايين الهائمين على وجوههم الذين تشردوا في كل بقاع العالم وخسائر مادية تقدر بمئات المليارات من الدولارات ودمار وخراب شامل لعديد من الحواضر العربية الشهيرة.
وكما أكد لبيمان الخبير الذي لا يشق له غبار في مقدرة وسائل الإعلام على تضليل الرأي العام فلقد اتبعت قناة الجزيرة ذلك حرفياً ونراها في الآونة الاخيرة تطلق إشاعات كاذبة ضد المملكة تؤكد عملياً ما نحي إليه ليبمان في مقدرة وسائل الإعلام على التزييف والتي تعتبر قناة الجزيرة نموذجا حياً لذلك. فصفقة القرن التي روجت لها الجزيرة اتضح كذبها وبطلانها والتزام المملكة قيادة وشعباً بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني التي أقرتها القوانين الدولية وعززتها المبادرة العربية للسلام، ورأينا كيف حتى أن شباب سعوديين في عمر الزهور انسحبوا من أمام رياضيين إسرائيليين في بطولات دولية. أخيراً، فعندما تكون وسيلة الإعلام مؤدجلة حتى النخاع ومنذ نشأتها الأولى كما هو الحال مع قناة الجزيرة القطرية فإن قدرتها على التضليل والكذب والتزييف لا تقف عند حد.