أ.د.عثمان بن صالح العامر
«استقلالية القضاء السعودي»
هذه الحلقة الثالثة في السلسلة الخماسية التي أكتبها على أثر البيان الصادر من وزارة الخارجية السعودية يوم الأحد 23 من ذي القعدة 1439هـ وما تبعه من إجراءات رسمية صارمة، رداً على ما صدر عن وزيرة الخارجية الكندية والسفارة الكندية في المملكة بشأن ما أسمتهم الحكومة الكندية (نشطاء المجتمع المدني).
لقد جاء في ثنايا البيان الإشارة الصريحة والواضحة إلى أن الموقف الكندي يعد (تجاوزاً على السلطة القضائية في المملكة) التي تتمتع بالاستقلالية التامة أكثر بكثير مما هو في بلاد الغرب الذي يُؤْمِن بفصل السلطات الثلاث بعضها عن بعض اعتماداً على (القانون)، ذلك أن استقلالية المحاكم السعودية عن بقية السلطات متولدة عن خمسة أمور أساس هي بإيجاز:
1- المرجعية الشرعية والتاريخية التي تؤكد وجوب تحقق حيادية القضاء واستقلاليته استقلالية تامة عن السلطتين التنظيمية والتنفيذية، ولذلك فالقاضي يستحضر النصوص ويسترجع المواقف عند كل قضية يجلس للنظر فيها، بدءا من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وانتهاء بالعلماء الربانيين الذين ما زالوا أحياء.
2- نظام القضاء السعودي الذي نص صراحة على مبدأ استقلال القضاء بشكل كامل، ولا أدل على ذلك مما جاء في المادة الأولى من أن: (القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية وليس لأحد التدخل في القضاء)، ومن أراد الاستزادة في هذا فعليه الرجوع لجملة من المواد (26، 51، 256) وحددت المادة 90 تحت الباب الثامن من نظام المرافعات الشرعية الحالات التي يكون القاضي ممنوعاً من نظر الدعوى وسماعها ولو لم يطلب ذلك أحد الخصوم، ومن أراد المزيد فليراجع في هذا الباب أيضا المواد (91، 92)، كما أوضح النظام حالات (عزل القاضي، نقل القاضي، مخاصمة القاضي، نقل القضية من القاضي)، بشكل يضمن حيادهم ونزاهتهم من جهة وحتى يكونوا بمنأى عن التأثير فيهم أو الضغط من أي جهة كانت.
3- ذات القاضي، فهو قبل ذلك وبعده مسلم يُؤْمِن أن بعد الدنيا الآخرة، وهي دار القرار إما إلى جنة أو إلى نار، والرسول صلى الله عليه وسلم حذرهم هم أكثر من غيرهم سوء العاقبة إن هم جاروا وحادوا عن القسطاس المستقيم لأي سبب من الأسباب، وتحت أي ضغط يأتيهم أو إملاءات ترد عليهم، (فالقضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة، رجل قضى بغير الحق فعلم ذلك فذاك في النار، وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار، وقاض قضى بالحق فذلك في الجنة) ولذلك فضمير القاضي يردعه ويؤنبه إن هو رضخ لأي إنسان تحت أي ذريعة وطائلة وفِي أي زمان ومكان، وهؤلاء هم (المقسطين عند الله على منابر من نور، الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما وُلوا)، ولذلك ليس كل من حمل شهادة الشريعة يختار قاضياً، بل هناك اصطفاء من قبل مجلس القضاء الأعلى بشكل علمي دقيق، والقارئ في صفحات التاريخ يجد أن هناك من كبار علماء الأمة وفقهائها من كانوا يرفضون الجلوس للقضاء بين الناس خوفاً وخشية من الله.
4- الرقابة القضائية، فتعيّن القاضي وترقيته والتفتيش عليه ومتابعته وتأديبه وعزله موكل لمجلس القضاء الأعلى الذي له الاستقلالية التامة، ويتمتع بالحصانة، ولو انفردت السلطة التنفيذية بتعيين القضاة ونقلهم وترقيتهم لكان في هذا الانفراد مساس باستقلال القضاء، فقد تستخدم التعيين والترقية وسيلة للتأثير على استقلال القضاء، فكان إنشاء مجلس أعلى للقضاء تكون له المرجعية في جميع المسائل المتعلقة بشؤون القضاة ضمانة من أهم الضمانات التي تكفل استقلال القضاة».
5- الرقابة المجتمعية فالناس شهداء الله في الأرض، والمسئولية عن تحقق العدل الذي هو ضمان بقاء الدول وسر تحقق الأمن وإن كانت في الأساس فردية تتعلق برقبة الحاكم والمنظم والقاضي كل فيما يخصه فهي كذلك جماعية، ولذلك فهناك رقابة حقيقية وإن لم تكن منظورة من قبل العامة على استقلالية القاضي وضمان نزاهته وحياديته والقصص والحكايات التي تبرهن على ذلك في تاريخنا الإسلامي كثيرة ومعروفة.
إن من مواطن الفخر والاعتزاز للمواطن السعودي أنه ينتمي لبلد التوحيد أرض الخير والبركة والعطاء المملكة العربية السعودية خادمة الحرمين الشريفين، ويعيش في وطن يستقل فيه القضاء استقلالاً تاماً مما يتحقق معه العدل ويضمن الإنصاف لك أو منك. حفظ الله قيادتنا، وأعلى كلمتنا، وبلغ الحجاج أمانيهم وحقق سؤلهم وحفظهم ووفقهم ورعاهم وجعل موسم الحج موسماً ناجحاً بكل المقاييس وعلى جميع المستويات، ودمت عزيزاً يا وطني وإلى لقاء والسلام.