إن التاريخ ديوان كبير يحوي القصص والأخبار والسير والعبر، يحوي المواقف والتجارب ليسطر المحاسن للمحسنين والمآثر على مر السنين، ليسطر المساوئ للمسيئين، فبين أعلام تفوح ذكراهم شذا وعبيرا بين السطور، وبين أعلام اشتهروا بالخزي والعار والفجور؛ وكأنه يحكي المقولة المشهورة فيما يروى عن تاريخ بغداد للخطيب وشهرته حتى قال أحدهم (ليت الخطيب ذكرني ولو في الكذابين) يريد الشهرة فحسب ولو سجَّله كذاباً دجالاً!!!
التاريخ كتاب مسطور لا ينتظر أن تكتب حروفه؛ بل هو حافظ بين السطور كل الأحداث والمواقف التي وقعت، فهل أنت صانع تاريخك بحسن الاستقامة وطلب الآخرة، أو كنت ممن طلب الدنيا ولو كان كذابا متزلفا، باع دينه لأجل دنياه وأرضى المخلوق بسخط الخالق فهدم تاريخه وخسر الدنيا والآخرة، في الترمذي وابن حبان من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قال - صلى الله عليه وسلم -: (مَنِ الْتَمَسَ رِضَى اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ، رَضِيَ الله عَنْهُ، وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ، سَخَطَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَسْخَطَ عليه الناس).
التاريخ لا يجامل ولا يداهن سطّر في صحائفه جميل الفعال لضعيف فقير، وسطّر أقبحها لقوي غني شريف، لن ينفعك مدح المادحين ولن ينجيك منصب أو جاه أو مكانة إنما النجاة بالتقوى؛ بل قد يكتب عنك السوء من مدحك في حياتك حيث لا مصلحة منك بعد موتك؛ لكن الصادقين المتقين تتسابق الأمة لتسجيل مآثرهم الخالدة ليبقى ذكرهم ما دامت الحياة، فتسمع لأموات من العلم والخير الباقي والنفع الجاري ما لا تسمعه لأحياء.
في واقعنا تسابق البعض لكسب الشهرة ولو بالتهريج والتفاهة وسوء القول والسفاهة، وآخرون يتسابقون للمناصب للتفاخر ولو بالكذب وسوء الأمانة، وآخرون يلهثون خلف المال لا يهمهم من أي مصدر كسبوه وبأي طريق أخذوه!!! كل هؤلاء وغيرهم من طلاب الدنيا يكدح عمره دون الوصول لمطلوبه وقليل منهم يصل إليه ويختم له عليه لتبقى سطور حياته في ديوان التاريخ نسياً منسياً وإن ذُكر ذُكر بأسوأ سيرة!!! اكتب تاريخك بنفسك واصنع مجدك بحسن نيتك وصلاح عملك، فلا تدري متى تحط رحالك على أعتاب آخرتك حين ينزل بك الموت فلا تجد زادا ينفعك ولا تاريخا يذكرك بخير.
اللهم اجعل لنا لسان صدق في الآخرين واجعلنا من ورثة جنة النعيم ووالدينا يا رب العالمين.