د. حسن بن فهد الهويمل
كل الحجاج، والمعتمرين يأتون من كل فج عميق على كل وسيلة، {لِيَشْهُدوا مَنافِعَ لَهُمْ}، ويؤدوا أنساكهم التي فرضوها على أنفسهم، فمعتق نفسه، أو موبقها.
يبذلون المال، والجهد، والوقت في الطريق:- {إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ}. وهم في الغدو، والرواح يتَفَاوَتون في المثوبة.
فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، والعطش.
وكم من حاج ليس له من حجه إلا العج، والثج.
وكم من عمل كالأَعْلام، ولكنه في النهاية يكون هباءً منثوراً.
وكم من وجوه عاملة ناصبة تصلى ناراً حامية.
المطارات، والمواني، والمحطات تتلقى أفواج الحجاج، والمعتمرين بأثواب كالأكفان، ناصعة البياض، وأجسام نظيفة الظواهر، وقلوب متفاوتة، ونوايا متباينة، والموعد:- {يَوْم تُبْلَى السَّرَائِر}. فللناس الظواهر. وعند الله يُحَصِّل ما في الصدور.
و[المملكةُ] التي شرفها الله بخدمة البيتين، واستقبال ضيوف الرحمن جادةٌ في تطهير المشاعر لكل قادم. لا تفرق بين أحد منهم، ولا تدع لأي اختلاف مذهبي، أو سياسي دوراً في أسلوب التعامل.
كل الناس عندها سواسية، لأنهم جاؤوا متجردين من كل زينة، متخلين عن كل أبهة:- {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} فمظاهر الحج تذكر بمشاهد القيامة.
وكل همها أن يقضي الحاج نسكه بأيسر النفقة، وأقل الجهد.
وهي إذ تبذل ما في وسعها لا تريد إلا رضى الله وحده، والاستجابة لأمره في تطهير بيته. نحسبها كذلك، ولا نزكي على الله أحداً. ولكنها في النهاية مجموعة مشاعر بشرية، تود لو أسْمِعَتْ كلمة شكر، أو ثناء. أو على الأقل التزام الحاج الحياد، والصمت، وعدم القعود مع الكذبة المضلين.
إنها تواجه نكراناً للجميل، وغمطاً للحق، وافتراء للكذب، ثم لا تتمعر وجوه الرافلين بتسهيلاتها.
وكيف يتأتى [الحج المبرور] لمثل هذا الصنف من الناس الذين يخوضون في سمعة [المملكة] مع الخائضين.
الحاج الذي لايجد تقصيراً، ولا إيذاء. ويتمتع بكامل الخدمات المجانية، والتسهيلات المتعددة، من الماء، والغذاء، والعلاج المجاني. من واجبه أن يعرف الفصل لذويه. وأن يتصدى لكل افتراء من جهلة، سمَّاعين للكذب، أو من عملاء أكالين للسحت، أو من مغرضين ملأ الحقد صدورهم، وأعْمَتْهم الكراهية للحق.
وحين نقول: إن المملكة محسودة على ماهي عليه من أمن، ورخاء، واستقرار، فإن هذا ناتج رصد دقيق للشواهد، وليس هو من باب التخرص، أو الادعاء.
فالدول المماثلة حين تبدو [المملكة] أمام شعوبها بتميزها، تتعرى الأوضاع السيئة التي يتكتمون عليها، ويعجز الإعلام عن تبرير التقصير. فلا يجدون بداً من افتراء الكذب. هذه حقيقة. ودعك من التخويف للابتزاز، والأنكى من ذلك صراع المصالح، التي تحمل على غمط الحق، وظلم الناس، وتضليل الرأي العام.
نحن بشر، ولسنا ملائكة، لنا مشاعرنا، وتطلعاتنا. وحقنا على من رضي عن عملنا أن يشعرنا بذلك. لنسعد بتوفيق الله، وتشريفه بخدمة مقدساته، وبالشكر نزيد من عطائنا. وهذا من باب الشكر الواجب، وكيف لا يكون للشكر أثر، والله يقول:- {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}.
فهل يعدل مانقدمه للمشاعر، والشعائر، وضيوف الرحمن شيءٌ من زخرف الحياة الدنيا. نريد إشعارنا بتمام خدمتنا، لنحمد الله على ذلك. كما لا نريد لأحد أن يشهد إلا بما علم.
وإن لم يكن هذا، ولا ذاك فلا أقل من كف الأذى، ولزوم الصمت، وعدم القعود مع الذين يخوضون في سمعة المملكة. فذلك أقل الواجب، وأضعف الوفاء.
ملايين الحجاج، والمعتمرين يعودون إلى بلادهم، وهم يحملون أطيب الذكريات، ثم لا يبدونها لمن حولهم.
وهذا من كتمان الحق المؤثر على [الحج المبرور]، ولا سيما حين تشاع قالة السوء عن بلاد أذن الله أن ترتفع بمنجزاتها بين لداتها. وكيف لا يتأتى لها ذلك، وهي تعمل على قدم، وساق لتهيئة المشاعر لضيوف الرحمن. فما تحط من مشروع [ملياري] إلا لتأخذ بمشروع آخر.
إن من [تمام الحج المبرور] الشهادة بما يعلمه الحاج. [المملكة] تتلقى سنوياً ملايين الحجاج، والمعتمرين. وواجبهم أن يكونوا سفراء لها في بلادهم.
- وهل أحد يجهل الدعوى المتوارثة في كل موسم، والمتمثلة بطلب [تدويل الحرمين]، واتهام المملكة بالفشل في إدارة الحشود، وتقصيرها في الخدمات، وإساءتها للحجاج، والمعتمرين؟
كل حاج يسمع خطل القول ثم لا يشهد بما علم يعد خائناً لأمانته، مقترفاً الرفث، والفسوق، والجدال، شاء، أم أبا، و[الساكت عن الحق شيطانٌ أخرس]. والله طيب لايقبل إلا طيباً. ومن كذب في حق [المملكة] أو كذب لها، فهو آثم قلبه. ومن زكاها، وهي لا تستحق التزكية، فهو كمن افترى عليها الكذب. نحن لا نريد إلا الصدق في القول، والعدل في الحكم.
ولهذا لا بد من الاستبراء للدين، والعرض، بحيث لا يكذب الحاج لها، ولا عليها.
قدرنا شعباً، وحكومة أننا نعيش التحدي بكل تكاليفه الباهظة. نعطي ثم لا نشكر، ونساند ثم لا نذكر. يسيء غيرنا فَنُحَمَّل إساءته، ويخطئ غيرنا فنحمل خطأه، خيرنا يتدفق على الفقراء، والمعوزين، وشر العائل المستكبر صاعد إلينا.
نحاول التناسي، والتغافل، ولكن التمادي يحملنا على أن نحمي حوزاتنا:- {إِلَّا مَن ظُلِمَ}.
قد يضطرك ظلم ذوي القربى على الجهر بالسوء، لتحمي حماك، وتشعر الأقربين [أن بني عمك فيهم رماح].
إن من سمات الوفاء كف الأذى. فجراح اللسان لا تقل إيلاماً عن جراح السنان، و:- [من يهن يسهل الهوان عليه]
فليس عيباً أن نتأذى من الكلام، وليس عيباً أن نطلب حقنا حتى من الكلام. ومن تصور أن طلبنا استجداء، أو خوف، أو ضعف فوت على نفسه التقدير السليم، والتدبير المحكم.
لقد جُنِّدت قنوات الضرار، ومواقع الشر للنيل من [المملكة]. وملايين الحجاج، والمعتمرين يشهدون التسهيلات، والخدمات، ثم لا يفندون المفتريات، ويظنون أن الله غافل عما يعمل الظالمون.
في مواسم الحج، والعمرة تُجَنِّد كافةُ الوزارات نَفْسها، وتدفع بموظفيها لإدارة الحشود، وتقديم أفضل الخدمات. عشرات الآلاف من رجال الأمن، والصحة، والخدمات البلدية، والكشافة، والعلماء، والمرشدين الذين يملؤون المشاعر، ومئات الأثرياء المحسنين الذين يقدمون المساعدات في الطرقات. من مياه مبردة، وأطعمة مغلفة، لا تغيب عن ناظر الحاج. والجميع يتواصون باحتمال الأذى، وبذل الجهد، وهذا بعض ما تراه الدولة حقاً لضيوف الرحمن.
امتعاض المواطن، واستياؤه من الصمت المريب، أو التخذيل المتعمد. والحج المبرور لا يكون مع الصمت، فكيف بالحاج إذ ساير الخائضين، وكتم الحق.
[المملكة] ماضية في خططها، ومشاريعها، ولن يفت في عضدها المخذلون، ولكنها تود للحاج القبول، والمثوبة، ولن يكتمل حجه مع الرفث، والفسوق، والجدال. ومن ساير الأعداء، أو كتم شهادته، فهو واقع في الرفث، والفسوق، والجدل شاء، أم أبى.
وأين الجميع من نهي الله:- {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}
العقلاء لا يستبعدون العداوة، والبغضاء، والشحناء، والأثرة، وتعارض المصالح. ولكنهم يستبعدون الكذب في القول، والظلم في الأحكام.
وذلك ما يسمعه سواد الحجاج، والعمار في بلادهم، ثم لا يشهدون بما علموا {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُه}.