د. جاسر الحربش
أوردت مجلة ديرشبيقل الألمانية هذا الخبر الطريف في صفحة كاملة، مع التعليق بسطر واحد في النهاية، مدينة ألمانية صغيرة لا يتعدى سكانها عشرة آلاف نسمة عانت لسنوات عديدة من إزعاج صحي واجتماعي تسببه يرقات حشرة صغيرة تضع بيضها في أشجار المدينة. الحشرة بذاتها ليست مزعجة ولكن يرقاتها المكسوة بشعيرات زغبية على كامل الجسم بمعدل خمسة وستين ألف شعيرة لليرقة الواحدة هي التي سببت المشكلة. كيف استطاع الألمان عد الشعيرات على اليرقة؟. ربما لأنهم ألمان وهذا يكفي. في فصول الصيف عندما ترتفع الحرارة وتهب الرياح تذرو معها ملايين الشعيرات في جو المدينة، شعيرات مدببة الأطراف إبرية الشكل تنغرس في جلود المارة وتسبب حكاكاً واحمراراً وانتفاخات مزعجة. الأشخاص الذين لديهم جهاز مناعة أنشط من المطلوب قد يصابون بأعراض صدمة عصبية تحسسية تفقدهم الوعي والقدرة على التنفس.
جميع عمداء المدينة السابقين حاولوا التعامل مع مشكلة اليرقات بالوسائل المتوفرة، مثل شفط الأشجار بالمكانس الكهربائية الضخمة ورش المياه الباردة والحارة ولكن دون جدوى. رش المبيدات غير مسموح به حسب قوانين البيئة الأوروبية، وألمانيا ربما هي الدولة الوحيدة الملتزمة بالقوانين بحذافيرها. آخر عمدة في المدينة كان السيد رودجر كلوث، وهو رجل متفان ولا يعترف بالهزيمة. أضاف السيد كلوث عدة محاولات أخرى لمحاولات سابقيه ولكنه فشل مثلهم. جميع محاولات العمدة الجديد لطلب المساعدة من مجلس المقاطعة ذهبت أدراج الرياح، والمجلس يطلب منه فقط التصرف حسب إمكانات المدينة. ذات يوم كانت الطفلة باولين تلعب في الشارع عندما تعرضت لكمية كبيرة من شعيرات اليرقات المتطايرة في الريح فسقطت مغمى عليها وانتفخ وجهها وتعطل تنفسها وفقدت الوعي، مما ترتب عليه بقاؤها في العناية المركزة عدة أيام، ثم تحت المراقبة عدة أيام إضافية. قبل الطفلة باولين سجلت عدة إصابات لأطفال آخرين بدرجات أخف. هذه المرة، لأن الطفلة باولين كادت تفقد الحياة قرر العمدة كلوث التصرف بطريقة مختلفة. كتب شكوى ضد نفسه ووقعها باسمه وذكر بحيثيات الشكوى أنه يطلب المحاكمة بسبب فشله في حل المشكلة مع اليرقات مما كاد يتسبب في وفاة الطفلة باولين. سلم الشكوى إلى شرطة المدينة بالطريقة المعتادة، وعلى الشرطة حسب القانون رفع الشكوى إلى القضاء للتحقيق، ثم نشرت الحادثة في الصحيفة المحلية كخبر طريف.
ما أن نشر الخبر صحفياً حتى كان التلفزيون والصحافة والمصورون وكل المتطفلين من وسائط التواصل الاجتماعي يملؤون شوارع المدينة. هنا تحرك مجلس المقاطعة بسرعة وشكل مجموعة خبراء من علماء النبات والسموم والحشرات والأطباء والفنيين، وهؤلاء درسوا الميدان وخرجوا بحل ناجع وتم القضاء على اليرقات دون الإضرار بالأشجار والبيئة.
في المقابلة الإعلامية مع العمدة الذي اشتكى نفسه سئل لماذا أقدم على هذه الخطوة فكان جوابه: طبقت من قبل الخمس خطوات الممكنة حسب المتوافر في المدينة للتعامل بالإمكانيات المحلية مع اليرقات ولم تنجح، فلم يبق لي سوى المحاولة السادسة وهي الضغط السياسي على سلطات المقاطعة عن طريق الإعلام. شعاري الأخير الذي طبقته كان: عليك أن تلفت الانتباه خارج إمكانياتك لتحرك البيروقراطية وتجبرها على العمل لصالحك. (انتهت القصة)
السؤال الأخير: هل يمكن أن يحدث تقدم حقيقي في أي مجال بدون إعلام شفاف وسريع التعامل مع المشاكل من أي نوع؟. أي وزارة إعلام تفرض رقابة صارمة على الشفافية تساهم في انتفاخ البيروقراطية وتجبرها.