في بداية التسعينيات قدم «راي أولدينبرغ» أستاذ علم الاجتماع الحضري The Great Good Place والأنثروبولوجيا في جامعة غرب فلوريدا في كتابه فلسفة مطورة حول مفهوم «المكان الثالث»؛ إذ عرفه بالمحيط الاجتماعي المستقل عن الأماكن المعتادة في المنزل «المكان الأول»، ومكان العمل «المكان الثاني»، ووصفه بالمقصد الأكثر إثارة لمشاعر الإحساس بالمكان وإدراكه، والأنسب لتطوير الأعمال وتفعيل المشاركة العامة وممارسة أنشطة الحياة الموجهة للمجتمع المدني في الفضاءات العامة، سواء كانت مغلقة أو مفتوحة.
«المكان الثالث» أصبح في السنوات الأخيرة مفهومًا شائعًا، ومتداولاً، وحظي باهتمام واسع من لدن المهتمين بالتخطيط والتصميم العمراني، وبات يمثل إحدى الوسائل من أجل تحسين Place making الأدوات الرئيسة لما يسمى بصناعة المكان، وجودة الحياة داخل المدن، وتعزيز تفاعل الناس وتعايشهم مع بيئتهم العمرانية.. فهو يعبر عادة عن مراكز التسوق، والساحات العامة، والسينما، ومراكز الترفيه، والمقاهي، والمطاعم، والحدائق، والمكتبات، والمراكز الاجتماعية.. وغيرها من الأماكن التي استطاعت أن توجِد «فضاء مشتركًا»، يمكِّن الإنسان من تعزيز علاقته واتصاله مع الآخر من خلال «أماكن المصادفة» التي أسهمت في إخراجه من عزلته المكانية في ظل حياة معقدة بين أروقة مدن متوحشة، كان من شأنها تدمير النسيج الاجتماعي بتمدنها، وفرض أسلوب حياة ضد الطبيعة البشرية.
المدن الملائمة للعيش هي تلك التي تستطيع أن تمنح سكانها فرصة لقضاء وقت أطول خارج المنزل أو مقر العمل، وتكون قادرة على توجيههم لأقطاب مكانية جاذبة، وشغل أوقاتهم بالبرامج والأنشطة والفعاليات وأساليب الترفيه.
وهذا يتطلب كفاءة واحترافية في نمط إدارتها؛ لذلك تفشل كثير من المدن في توظيف الفراغات العمرانية، وتلبية احتياجات الناس، والمحافظة على انتمائهم لها.. وكثيرًا ما تخسر ثقتهم على المستوى «المعنوي»؛ لأنهم لا يجدون أماكن مؤهلة يذهبون إليها؛ وبالتالي ينكفئ هؤلاء الناس على أنفسهم، ويفقدون ذلك المكان الثالث؛ وتتحول المدن إلى أماكن «أحادية» مغلقة ومعزولة؛ ويتولد نتيجة لذلك ظاهرة «الكآبة الحضرية» التي عادة ما تنعكس سلبًا على سلوك الناس ومعنوياتهم وأخلاقياتهم ونمط حياتهم.
في النسخة السعودية يبدو أن المدن ستواجه مرحلة حرجة لتلبية الطلب المتزايد على ثقافة «المكان الثالث» التي يظهر أنها تتنامى بشكل سريع لدى أفراد المجتمع كافة؛ وهذا ما سيحفز على استغلال الفراغ الحضري واستثماره، ورفع كفاءته الوظيفية، والتعامل معه كحاضن رئيس لمجموعة من القيم الإنسانية؛ لذلك لم يعد هناك خيار أمام مسيري هذه المدن سوى مواكبة هذه المتغيرات الاجتماعية والعمرانية والاقتصادية، والعمل على إحداث تغيير جذري في عقلية التطوير، والتركيز على إعادة اكتشاف مدنهم، وإدراك أن المدينة «كائن حي»؛ يؤثر ويتأثر..
وإن ثمة مكانًا ثالثًا «افتراضيًّا»، يمثل منافسًا حقيقيًّا، يتمثل في وسائل التواصل التي يمكنها السيطرة الكاملة على نمط حياة الناس Social Media الاجتماعي، ودائرة اهتماماتهم، وفرض عزلة اجتماعية عليهم إذا لم يكن هناك بديل عمراني مؤهل لاحتوائهم ودمجهم مكانيًّا «في الواقع».
** **
- م. بدر ناصر الحمدان