عبدالعزيز السماري
لا يمكن أن نتخيل غرابة هذا العصر الذي نعيش فيه إلا بمحاولة الخروج منه ولو قليلاً، ومن ثم تأمل تفاصيله خارج حدود الصورة، فالأمر تجاوز الحدود المعقولة في فعالية وسائل الاتصال، ولم يعد التحكم فيها أمراً ممكناً، وقد تنبأ ماركل مكلوهان بالتوسع الهائل في وسائل الاتصال، ومدى تأثيرها قبل ستة عقود، وهو الرجل الذي توقع المنافع والمخاطر العديدة التي ستواجهها البشرية حين تسيطر هذه الوسائل على العقول..
أشار إلى التأثيرات التحويلية الهائلة التي يمكن أن تحدثها على مختلف جميع الثقافات، ووصفها بأنها تقنية «رائعة»، وتشجع التفاعل والمشاركة، مما يسمح لأي شخص بالمساهمة والإدلاء بأفكاره ومعتقداته، وسيكون لذلك تأثير يؤدي إلى نموذج «القرية العالمية»، وهي واحدة من العديد من العبارات الجذابة والمؤثرة التي صاغها، والتي يمكن أن تغير الطريقة التي يفهم بها الناس الحياة، ويتفاعلون مع بعضهم بعضاً إلى الأبد. كتب في عام 1962: إن الوسيلة التالية، مهما كانت - قد تكون امتدادًا للوعي الجديد ما بعد الحداثة، وستشمل التلفاز كمضمونه، وليس كبيئته، وقال: إن الكمبيوتر كأداة للبحث والتواصل يمكن أن يعزز انتقال الأفكار، والتواصل بصورة غير مسبوقة. وما كان يتحدث عنه الأستاذ ماكلوهان يبدو، وكأنه يشبه الإنترنت، وأثبت الإنترنت نفسه أنه كان على حق أكثر مما كان يتخيله.. أجاد كثيراً في طرح تحذيراته، ومنها مقولة «الوسيطة هي الرسالة»، مما يدل على اعتقاده بأن الطريقة التي يتلقى بها شخص ما المعلومات التي تهم بقدر أو أكثر من المعلومات الفعلية نفسها، وكأنه يعبر عن الطريقة التي تستطيع بها وسائل الإعلام تشكيل فهمنا.
وكتب يقول: بمجرد أن تستسلم حواسنا وأنظمتنا العصبية للتلاعب المبرمج، ومن ثم استغلالها من خلال التجسس على أعيننا وآذاننا وأعصابنا. يبدو أنه تحذير واضح حول الطرق التي يمكن بها تسخير أقوى الأشياء المتعلقة بالإنترنت، وقدرتها على جمع الناس في المجتمعات وتغيير طرق رؤيتنا للعالم، وهو ما يعني أن الأفكار أصبحت تقترب كثيراً من بعضها، ومن المتوقع أن تذوب الخصوصية داخل مفهوم القرية العالمية، وقد تؤدي إلى انتشار مفاهيم موحدة نوعاً ما حول فلسفة الحياة والاقتصاد والسياسة، وأيضاً حول فهم الدين..
من مشاهداتي المتواضعة من خارج هذه الثورة التفاعلية الهائلة أن نماذج الحياة الاجتماعية وعوالم الاقتصاد والرؤية السياسية قد ربحت جولاتها العقلانية الحديثة، والتي تأسست بعد ثورة العقل ضد رجال الدين وسلطة الكنيسة في الغرب، وتحولت بعد ذلك إلى أشبه باللغة العالمية، وقد يعاني كثيراً من يجهل الحديث من خلالها أو التعامل مع مصطلحاتها، فقد أصبحت الحياة بالفعل تقوم على أركان أساسية مثل الحرية المسؤولة تحت طائلة القانون، والشفافية، وثورات الحقوق الفردية، والتسامح، واستقلال القضاء، وغيرها من الأفكار الحديثة..
أما البعد الديني ومحاولة تفسير عالم الغيب، فما زال الإسلام بخطابه القرآني البليغ يتصدر المشهد في مختلف أرجاء العالم، وما زال يلاقي اهتمامًا واسعًا من مختلف العقول التي تبحث عن الحقيقة ما وراء هذا العالم، وما يحدث قد يكون مقدمة لما ستكون عليه القرية العالمية الموحدة في المستقبل، وهو مصطلح يعبر عن بدء مرحلة العلاقة التأسيسية بين الاقتصاد والعلوم الاجتماعية الأخرى في جميع أنحاء العالم، ومن ثم الوصول إلى صيغة عالمية تعددية أكثر تشابهًا وقبولاً من أي مرحلة في التاريخ..