علي الخزيم
ما هو موقف الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص من الصحابي الفارس البطل أبي محجن الثقفي، وكيف تعامل معه حين وقع بالخطأ؟ إنه تعامُل الكبار والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالحسنى! لم تتملك سعداً الشدة بغير مكانها، ولم يعالج الأمر بحماقة قليل الإيمان والعلم والمروءة، فالقصة (وإن تباينت بعض أجزائها بالروايات) تقول: إن الصحابي أبي محجن عَمْرُو بنُ حبيبٍ الثقفي كان قد ابتُلِي بشرب النبيذ، وعوقب بسبب ذلك ويتوب ويعود لبلواه غفر الله له، وفي معركة القادسية علم القائد الفذ سعد بن أبي وقاص أنه قد جلب قليلاً من المشروب دسَّه بين متاعه، فعاقبه بالحبس في معسكر الجيش وحرمه من المشاركة في قتال الفرس، وكان سعد قد جُرِح باليوم السابق للمعركة وأقعده جرحه وبقي يُشْرف على سير النزال من مرتفع نُصِب له، فشاهد فارساً يُبْلِي بلاءً حسناً ويُطَاعِن ويكر ويفر ببراعة مشاهير فرسان العرب، فقال كلمته المشهورة: (الطَّعن طعن أبي محجن والكَرُّ كَر البلقاء)، والبلقاء فرس سعد لكنها بمربطها؛ وهو بالقيد.
تعجَّب سعد من فروسية الرجل؛ فاستوضح الأمر، فأخبرته زوجته بأن أبا محجن طلب منها الإذن بفك قيده والخروج للمعركة متعهداً بأن يعود لقيده ومحبسه إن لم يُرزق الشهادة، فأذِنت له، فامتطى صهوة البلقاء ومضى إلى ما رأيت! فقرر القائد الحكيم سعد العفو عنه نظير ما أبلاه في سبيل الله وإعلاءً لدينه وخدمةً لإخوانه المسلمين، فأقسم أبو محجن ألا يعود لمعاقرة الخمر، لما وجده من سماحة الصحابي الجليل والقائد المُلهَم.
القصة على اختصارها هنا تُبرز ما كان عليه صحابة رسول الهدى وما تعلموه من دروس نبوية بسماحة الإسلام ووسطيته، فلا تشدُّد ولا تعنُّت باتخاذ الأحكام وتنفيذ العقوبات، مع النظر إلى مآلات الأمور وفقه واقع الأمة، والتبصُّر بأحوال الرعية وتفهُّم أوضاعها ومحاولة تدارُس النوايا قبل المضي بالحكم، ومَن هو سعد؟ هل هو ذاك الرجل البسيط قليل العلم والمعرفة، أم أنه من عامة الناس وأطرافهم؟ بل إنه الصحابي الجليل أحد المبشرين بالجنة من السابقين بالإسلام والهجرة؛ وأول من رمى سهماً في سبيل الله، وهو ممن نزل بهم قرآن بعد أن أصر على إسلامه وعدم ترك دينه ووقف بوجه والدته التي أضربت عن الطعام لإرغامه على الرجوع عمّا جاء به محمد فاستعصم بالله، ونزل قوله تعالى: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) الآية (15) لقمان، وحين طُعِن الفاروق عمر؛ قال: لو كنت مختارًا للخلافة واحدًا لاخترت سعدًا، وقال لمن حوله: إن وليها سعد فذاك، وإن وليها غيره فليستعن بسعد، فكان عثمان بن عفان يستعين به في كل أموره.
فهل بعد سعد حجة وهل بعد رجل بشَّره خير بني آدم بالجنة؛ وهل بعد من أسقط مع أصحابه إمبراطورية الفرس من تشكيك وتردد؟! فلنتعلم منهم السماحة والوسطية والدين الناصع النظيف من كل تشدد وتأزيم.