قصة التنمية الشاملة في المملكة العربية السعودية لها خلفياتها وتفاصيلها وهناك الكثير مما لم يرو ويوثق بعد عنها، ولي أن أتذكر وأنا في سن العاشرة في منطقة الباحة الجميلة مدى اهتمام والدي سعود بن عبدالرحمن بن تركي السديري بعمله وحرصه على مسؤولياته الشاملة كأمير لمنطقة الباحة (منذ عام 1379هـ وحتى عام 1398هـ)، ومدى اهتمامه بتنفيذ أوامر وتعليمات ولاة الأمر حيث لم يغب عنه يوماً إذكاء مفهوم الانتماء للوطن والولاء للقيادة والتعاون لما فيه المصلحة العامة في عقول المواطنين من أبناء المنطقة الذين كان همهم الأكبر حينها تلبية احتياجاتهم المعيشية مما يزرعون ويحصدون ومن تربية الماشية ومما يتاجرون به في الأسواق الشعبية من منتجاتهم.
كانت أحوال الناس بسيطة وأمور الحياة سهلة وميسرة، وعلى سبيل المثال لم يكن في عام 1380هـ سوى طبيب واحد وطريق واحد ينتهي في بلجرشي مقر الإمارة حينها.
كانت الرحلة من الطائف إلى بلجرشي تستغرق يومين إلى ثلاثة أيام في أفضل الأحوال وفي حال عدم تعرض المسافرين إلى الأخطار جراء سيول الأودية العارمة، وتتم بسيارة (الإبلاكاش) ولا تتوافر سوى رحلة واحدة كل أسبوع.
كان عدد المدارس في المنطقة مما يعد على أصابع اليد الواحدة يقوم عليها مدرسون جلهم غير سعوديين، أما الطلاب فمن مختلف الأعمار وقد يكون في الفصل الواحد طلاب تراوح أعمارهم بين 7 إلى 20 عاماً، وللقارئ الكريم أن يتخيل ماذا يمكن أن يحدثه فارق السن هذا من تمييز في التفكير والسلوك.
كان لي شرف مزاملة بعض أولئك الطلاب الذين أصبح منهم الطبيب والصيدلي والمهندس والمعلم وغيرهم من المهنيين والموظفين، يأتون للمدرسة على الدواب وينشط بهم المسير من منازلهم المتفرقة في القرى المحيطة إلى الباحة.
تبدأ رحلتهم اليومية من ساعات الفجر الأولى أو حتى قبل ذلك، إلى أن يصلوا للمدرسة مبللين من مياه الأمطار في أكثر أيام العام، ومن يتأخر منهم عن بداية الحصة الأولى يجد مراقب المدرسة يقف أمام باب المدرسة مهدداً ومتوعداً وقد يتعرضون للضرب أيضاً.
كانت رحلة كفاح لكثير من أبناء المنطقة الذين واصلوا تعليمهم ووصلوا إلى مناصب عليا.
القريبون من أمير المنطقة، وأنا أحدهم، كنا نشاهد مدى جهاده في تذليل المصاعب والتحديات في بناء الإنسان والمكان في منطقة الباحة.
كان يرى ما تزخر به المنطقة من مقومات نظراً لما تملكه من كثافة سكانية وقرى مأهولة وبما يتوافر بها من مصادر طبيعية يمكن الاستفادة منها سياحياً. وكان لنقل الإمارة من مدينة بلجرشي إلى مدينة الباحة ذات الموقع المتوسط دوراً كبيراً في التسهيل على المواطنين وتقديم الخدمات الحكومية لهم.
كما تنبه إلى أن مسار التنمية في هذه المنطقة ذات التضاريس الوعرة يكمن في فك عزلة هذه المنطقة بشق الطرق وربطها مع المناطق المجاورة، وكذلك الربط بين قراها وشعابها ووهادها وجبالها الشاهقة بفتح العقبات والطرق مما سيسهل وصول كافة الخدمات الأخرى لكافة مدن وقرى المنطقة.
ومع عدم توفر الخطط أو الإمكانات أو الاعتمادات المالية حينها، إلا أنه استعاض عن ذلك بتوفيق الله ثم بدعم وتشجيع ملوك وقادة هذه البلاد وتعاون مشايخ القبائل الذين لم يكن لهم هدف إلاّ مصلحة بلادهم وقراهم والتوفيق بين المواطن وحكومته.
ولأهمية ما يؤمن به من أهداف يريد تحقيقها فقد كان يوجه بنفسه في إرسال معدات الطرق ورسم مساراتها ولقد استخدم في ذلك الوسائل المتاحة لمسح المناطق المراد عبور الطرق منها، واستعان بكافة الوسائل للقيام بالجولات من طائرات أو سيارات أو دواب أو سيراً على الأقدام حسب طبيعة المناطق.
كان رفيقه في تلك الجولات الرجل الفاضل سعد المزروع -عليه رحمة الله- الذي يعد من الرجال العارفين بأسماء القرى والوديان والجبال والسكان، كان موسوعة جغرافية تاريخية اجتماعية في رجل واحد.
كنت شاهداً على رسم مسار طريق قرن ظبي بطائرة الثروة المعدنية التي وجه بإرسالها الأمير سلطان بن عبدالعزيز رحمه الله، وكنت أسمع وأشاهد ما تعهد به أحد مشايخ القبائل حينما قال له: (أراضي قبيلتي تحت تصرفكم افتحوا من حيث تريدون أنا كفيل بأفراد القبيلة).
وكنت معه أيضاً حينما فتح الطريق من جبل الحجيّر مخترقاً غابة رغدان بصعوبة لا تنسى.
لقد تم تنفيذ كثير من الطرق الزراعية بين القرى وبعض العقبات بين السراة وتهامة ذلك الوقت بتعاون أبناء المنطقة وبدون تحمل أية تكاليف على الدولة سوى تكاليف صيانة المعدات ووقودها واعتماده على السبل القديمة المتعارف عليها لتكون محاور هذه الطرق التي نقلت التنمية والنماء لهذه المنطقة فكان لها النصيب الوافر من كهرباء ومدارس ومستشفيات وخدمات حكومية متعددة.
كنت معه في جولة للأمير سعود الفيصل رحمه الله على طريق غابة رغدان إلى زهران وتساءل سموه متعجباً عن كيفية إقناع الناس بمرور هذه الطرق من أراضيهم التي هي أغلى ما يجدون وكان رده هم أناس طيبون وكرماء يقبلون تغليب المصلحة العامة. كما قام باختيار موقع مطار العقيق الحالي على ظهرة الحرة بعد ما جرفت السيول موقع مدرج المطار القديم الذي كان عرضه لإخطار السيول.
لم يمنعه هذا العمل الميداني الشاق من القيام بواجباته العملية والاجتماعية كأمير للمنطقة والنظر في قضايا الأهالي ومطالبهم وشكاواهم في إرساء العدل وإذكاء روح المواطنة بينهم ومشاركته أفراحهم وأحزانهم.
لقد كان له مجلس مسائي مفتوح بشكل يومي لاستقبال الناس والاستماع إلى أحوالهم كما خص أهل قرية الظفير التي كان يسكن بها بجلسة أسبوعية محببة يحضرها عريف وكبار القرية ومديرو المدارس والمدرسين.
كما كان شريكاً في التنمية السياحية وذلك قبل إنشاء الهيئة العامة للسياحة بعشرات السنين ومن ذلك ما يندرج اليوم تحت السياحة البيئية، وكان عشقه اكتشاف المواقع الأثرية والمنتزهات والغابات دون التأثير على أملاك ومزارع وملكيات المواطنين.
حيث كان شديد الحرص على الحفاظ عليها وعدم التعدي عليها من صغير أو كبير ومن ذلك ما تحقق في إظهار غابة رغدان لحيز الوجود وفتحها بصعوبة لعموم الزوار من داخل وخارج المنطقة التي أصبحت إحدى الجهات السياحية الرئيسة في المنطقة وفتح الطرق لعدد كبير من الغابات والمحافظة عليها كغابة شهبة وغابة الحمران وغابة السكران وغابة قذانه وحوالة ووادي فيق ومهران وشلالات الملد وفتح الطريق لمعشوقة والمحافظة على القرى الأثرية فيها وقرية ذي عين كما كان شغوفاً في تسجيل قراءات ارتفاعات قمم الجبال الشاهقة فيها.
لقد اهتم أيضاً بالجانب الثقافي في المنطقة واستضاف عدداً من الأدباء والكتاب الذين زاروا المنطقة منهم حمد الجاسر وعبدالله بن خميس وعبدالقدوس الأنصاري وغيرهم واستضاف الوفود الطلابية من الجامعات والمعسكرات الكشفية والمستكشفين والرحالة الأجانب، كما كان له مقال دوري في مجلة المنهل العريقة بعنوان - ما أعجبني - ما أكتبه عن والدي ليس تمجيداً أو تخليداً لتاريخ والدي في هذه المنطقة فهو وإن كان سرداً لما عايشته كغيري من أبناء جيلي من واقع يؤكد على التحديات والصعوبات التي واجهتها القيادة في بناء وتنمية هذا الوطن الغالي، وما قدمه والدي رحمه الله هو من أبسط واجباته وهو أيضاً ما كان ليقدمه أي فرد مخلص من أفراد الشعب السعودي الكريم، كما أنني لا أملك من الوثائق ما يدلل على ما ذكرت ولكنها ما شاهدته وسمعته وعايشته والناس شهود الله في أرضه، وسيظل ما قدمه فصلاً من فصول التنمية الشاملة في مملكتنا العزيزة ولم يكن يتأتى له ذلك بدون توفيق الله ثم دعم القيادة.
واليوم وبعد أن غيبه قدره عنا ليس لنا إلا أن ندعو له بالرحمة والمغفرة وأن يجعل الخير في عقبه، أما نحن أفراد أسرته فلن ننسى المواقف السامية الكريمة والنبيلة تجاه والدنا من مقام مولاي خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين وأمرائنا ومشايخنا وإخواننا المواطنين الذين قدموا من كل مكان واتصلوا معزين وداعين له بالمغفرة والرحمة وغمرونا بفيض مشاعرهم المخلصة ونثمن موقف صاحب السمو الملكي أمير منطقة الرياض وسماحة المفتي ومبادرتهم بمواساتنا والمشاركة في الصلاة عليه.
كما لا ننسى جهود المسؤولين والعاملين المخلصين في مستشفيات القوات المسلحة على رعايته الطبية طيلة مرضه - رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
وختاماً أسأل المولى أن يديم على هذا الوطن قيادته وأمنه واستقراره ورخاءه، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
** **
- بدر بن سعود بن عبدالرحمن السديري