د. حسن بن فهد الهويمل
ويقضى الأمر حين تغيب تيم … ولا يستأمرون، وهم شهود.
من المصائب الجسام تحول الشعوب المغلوبة على أمرها إلى ضحية، مجرمة في آن:- [كالثور يضرب لما عافت البقر].
قد يقبل الصابر المحتسب التهميش، والتجويع، ومصادرة كل الحقوق. ولكنه لا يحتمل أن يكون الضحية، والمتهم، والمعاقب دون محاكمة. بحيث تجتمع عليه كل المصائب، ثم لا يسلم من البطش. إنه وضع في غاية التوحش، واللاإنسانية تعانيه بعض الشعوب العربية.
من السهل أن تجد ذلك، ومثله معه واقعاً على الإنسان العربي، تراه العيون، وتسمعه الآذان، وتلمسه الأيدي، وتتجرع مراراته الأفواه، وتشم نتنه الأنوف، ثم يأتي من يمجد الجلاد، ويزكي صانع اللعب.
بعض [الشعوب العربية] بل أكثرها، تمثل تلك الأدوار على المسرح السياسي، منذ فجر [الانقلابات العسكرية]. وكل مفرزة عسكرية تصبح الناس، وهم نائمون، أو تفجؤهم ضحى، وهم يلعبون بانقلاب دموي تنوع فيه التعذيب، ولا ترفعه.
إنها شعوب مغلوبة على أمرها، ماعرفت إلا غياهب السجون، والمقابر الجماعية، غلت أيديهم حتى عن كسرة الرغيف.
الملاجئ، والمنافي، والمخيمات، والهجرات العشوائية، والغرق الجماعي، والعلوق على الحدود، هي الشواهد الأكثر صدقاً، والأقوى شهادة.
- فهل أحد يستطيع إنكار شيء من تلك المسميات؟.
- وهل أحد وضع النقاط على الحروف، وعرى الأوضاع؟
ومن وراء ذلك كله عالم متسلط، لايرقب في عربي إلًا، ولا ذمةً، بل لايكتفي بالمراقبة عن بعد، وإنما يبارك الأوضاع المأزومة، ويسعى لإدامة الفتن العمياء، وتقليب الأمور.
لا نريد من الغرب أن يكون شرطياً في المنطقة، فتلك أحلام الخليين, ولكننا نريد منه أن يخلي نبالنا للعدى, ونبالها:-
[تخذتكم درعاً، وترساً لتدفعوا … نبال العدى عني، فكنتم نصالها].
وليس أدل على ذلك من وضع [اليمن] إذ كلما شارف [الحوثيون] على التسليم، قيل لهم اثبتوا. نحن من ورائكم. وجاءهم المدد من كل جانب، حتى من المؤيدين للشرعية، والتحالف في لغو الكلام.
هذه الأوضاع المذهلة لم تكن صدفة، ولا سمة لازمة للإنسان العربي. إنها ناتج مكر عظيم، وتدبير محكم، يدفع به خبراء مردوا على الإيذاء.
كانت الأمة العربية في عهد ما يسمى بـ[الملكية الرجعية] على جانب من الأمن، والاستقرار، والثراء، والتوسع المدني.
حتى أن بعض الدول الأوروبية مدينة لـ [مصر]، وحتى أن العواصم الأوروبية تقتدي بـ [القاهرة] في نظافتها، وحسن تخطيطها.
وجاءت [الانقلابات العسكرية] على حين غفلة من العقلاء، لتقلب الأوضاع رأساً على عقب، وتنفذ بخبث ماكر، أو بغباء معتق [أجندة] تريد للأمة العربية أن تظل فقيرة، جاهلة، مستهلكة، تستمرئ القتل، والتدمير. ممزقة الأرض، مشتتة الفكر، مفرقة الدين، منوعة الأنماط السلوكية، متباينة المستويات، بحيث يظل الشقاق، ويستحيل الوفاق. شعوب غنية بحسن التدبير، وأخرى فقيرة بسوء التقدير.
ليست الإشكالية في حدوث انقلابات: دموية كانت, أو سلمية، فتلك أحداث عارضة، تتعرض لها كل الشعوب. وليست هي ـ أيضاً ـ في الحروب الطاحنة التي أهلكت الحرث، والنسل، كـ [الحربين العالميتين] ولكنها في عقول لاتفقه، وآذان لاتسمع، وعيون لاتبصر، ومن ثم لاتغني فيها الآيات، والنذر.
أفكار غلبت عليها شقوتها، فاستمرأت القتل، والتشريد، والتخويف، والتجويع. وبارك ذلك إعلام لايعرف الصدق، ولا العدل.
لقد مرت [أوروبا] بفتن لم تبلغها الأمة العربية، لا في همجيتها، ولا في دمويتها، ولا في تدميرها.
ولكنها وعت الدرس، وتداركت الأمر، وأحكمت صنع الإعلام، وعادت إلى رشدها، فكانت كما نرى، ونسمع من مدنية لاتنازع.
وهي قد ائتلفت بعدما اختلفت، رغم تباينها في الأعراق، واللغات، والديانات.
بينما [الأمة العربية] أمة واحدة في: وحدانيتها، ولغتها، ودينها، وجنسها. ومع ذلك ظلت ممزقة الأرض، مشتتة الفكر. مختلفة على الثوابت، فضلاً عما سواها.
لقد بدل المتنخوبون المتصدرون دينهم بالطائفيات، والتمست كل طائفة شواذ المسائل، وبؤر الاختلاف. وكانوا شيعاً يضرب بعضهم رقاب بعض.
- فمن الذي شكل هذا الوعي الأعوج. وجعل الناس يتناحرون، ويتدابرون، ويذكون العداوة، والخصاما؟.
إنه الإعلام المعوج اعوجاج ذويه. الإعلام الذي يقلب الحقائق، ويزيف الوعي.
وإذا كان الانقلابيون العسكريون يختارون، ويصنعون على عين العدو المتربص، فإن الإعلام هو الآخر يصنع على عيون زائغة عن الحق، والصدق.
الشعوب الموفضة إلى سراب القيعان، هي التي تدفع الثمن، وتتحمل النتائج، وتظل في أمر مربح.
و[تيميتها] ليست في قعودها مع القاعدين، ولكنها في تشكيل وعيها الذي أذلها، وأهانها، وأحزنها، وأدام تخلفها، وأقنعها بأنها مصدر كل شر. وفي النهاية أحلها دار البوار. الشعوب وحدها التي تتحمل الغرم، ولا تنال شيئاً من الغنم.
لقد فوت على بعضها بعض حكامها الحياة الكريمة، التي كان بإمكانها أن تتوفر عليها.
فالله قد بارك في أرضها، وبعث منها الرسل. وأدار فوقها أهم الأحداث، وأنزل فيها أصدق الكتب، وأنشأ فوقها أهم الحضارات، ودحاها من الكنوز، والخيرات، وفجر فيها الأنهار، وعدد فيها البحار، وربط بأرضها القارات، وهيأ لها أهم الممرات، والمضايق. حتى لكأنها: {بلدة طيبة ورب غفور}.
وفوق هذا ترى من حولها شعوباً عربية, تعيش في أمن، واطمئنان. متصالحة مع قادتها، مديرةً لاختلافاتها باحترافية، ثم لا تقتدي بها، بل لا تسلم تلك الشعوب المسالمة من الاتهام.
آخر تصريح للشعب السعودي على لسان قائده موجه للفلسطينيين:- [نقبل ماتقبلون، ونرفض ماترفضون]. ومع هذا نجد من بعض أصحاب الشأن من يساند أعداءنا. لأننا ـ على حد زعمهم - لم نخلص للقضية.
هذه [التيمية] التي تعيشها بعض الشعوب العربية صناعة متعوب عليها من قبل الدول الكبرى، التي اختارت لنفسها العدل، والحرية، والمساواة، وأفاضت على ماسواها الحشف، وسوء الكيل.
القابلية للتبعية، مصطلح سكه المفكر الإسلامي الجزائري [مالك بن نبي] رحمه الله. بعد دراسة واعية، ومراقبة دقيقة لأوضاع الأمة العربية، ولما يزل هذا المصطلح قائماً. إذ لما تزل الأمة العربية قابلة لتنفيذ اللعب الكبرى, التي أفشلتها، وأذهبت ريحها:-
{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ }.