أ.د.عثمان بن صالح العامر
يعيش الآباء والأمهات وأولياء الأمور صراعاً صعباً هذه الأيام جراء ضغط أولادهم عليهم - خاصة البنات- طالبين السفر إلى خارج المملكة مثل غيرهم من أخوال وأعمام وجيران وزملاء وأصدقاء، فبنت خالي تسنب من لندن، وأعمامي في فرنسا وسوف يتوجهون اليوم للريف الإيطالي ثم النمسا وسويسرا وبلجيكا وفرنكفورت و... سيدورون أوروبا دولة دولة ولن يعودوا إلا بعد بداية الدراسة بأسبوع، (هذولا العائلة مو حنا)، وجيراننا الذين يدعون الفقر في جورجيا، بنتهم سحر مصورة بفندق (يجنن)، وصديقتي يارا بطرابزون (أمس مسنبة في مكان يهبل) وصديقة صديقتي شوق السالم بمصر، وحنان (اللي معنا بالفصل مرسلة لي من دبي وبكرا تقول طالعين ماليزيا و... وحنا ما تحركنا من ديرتنا)، (وبكرا تجي المدارس وكلن يتكلم عن سفرته واتفشل أنا بسببكم قدام زميلاتي وصديقاتي، حتى ما أقدر أكذب عليهن، يبن يقلن وين صورك، ليش ما سنبتي لنا).
بصدق صراع نفسي صعب، مشكلة تعاني منها بيوتنا تولدت من جعلنا السفر للخارج ضرورة حتمية، وواجب أبوي يلزمه القيام به صيف كل عام وإلا صار في نظر أولاده أقل من غيره إن كان لا يستطيع، أو بخيلاً على فلذات أكباده في ماله الذي بين يديه إن كان من الطبقة القادرة الميسورة الحال، وهذا الأمر تولد نتيجة التقليد والمحاكاة في جوانب عدة من سلوكياتنا الحياتية حتى صار حكم الناس أشد وقعاً علينا من أحكام الله، وصرنا ننزل ما تعارف الناس عليه من حولنا منزلة القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، ليس في هذا الأمر فحسب بل في غيره كثير مما يطول الحديث عنه، فنحن في منظومة مجتمع أعرافه وقيمه التي سنها وأبدع في فرضها مسلمات لا تناقش فضلاً عن أن تخالف، والواجب عليك وأنت ابن هذه البيئة أن تكون ترسا في آلة تفعل مثلما فعلوا وإلا صرت خارج السياق المجتمعي في سلوكياته العامة التي تحتاج في كثير من مفاصلها إلى إعادة نبش وقراءة تحليلية ناقدة من جديد، والعاقل من وطن نفسه وأعمل فكره واختار الأصلح له ولمن يعول بكل حيادية واتزان.
من الصعب جداً أن أقول إن الحل لمشكلة هذه البنت أو الولد في عدم سفرهم صيف هذا العام لخارج المملكة يكمن في التخلص من هذا السلوك المغروس في النفوس فهذا يحتاج إلى تربية وتدريب قد يستمر لسنوات، وليس من المنطق أن نقول لمن يسافر: اترك الترحال من أجل ألا تجرح خواطر غير القادرين، ولكن يمكن أن نقول له ولأولاده ولمن يعول لا تسنب ولا تصور ولا تتحدث بما أنت عليه من حال حتى لا تكسر خاطر الفقير واليتيم والمسكين وذي العوز والحاجة وغير القادر ومن في حكمهم، كما أن على أولياء الأمور بناء الثقة لدى صغارهم فيما هم عليه من حال، وإشعارهم بأن ما يعتقده البعض ضرورة قد لا يكون كذلك، وتدريبهم على ترتيب الأولويات في الحياة، وتذكيرهم بالنعم التي يرفلون بها، وإعلامهم أن القناعة سجية ترضي الضمير وتريح الخاطر وتحقق الراحة النفسية واتزان الشخصية وهذا هو الأهم من أجل تحقق الصحة الكاملة التي لا ينالها إلا صاحب النفس المطمئنة، وإقناعهم أن السفر للخارج سياحة ليس دائما في كل إجازة نهاية عام دراسي، ولا على حساب التزامات الأب أو الأم المالية والاجتماعية والوظيفية، وأخبارهم أن الإنسان الواثق من نفسه لا يتحرج من سلوك يقترفه إذا كان ليس فيه ما يشين شرعاً وعقلاً وعرفاً، والبقاء في بلدك خلال أيام الإجازة ليس خطأ ولا عيبا بل هو شرف وعز فمهما ذهبت وشاهدت فما لديك في مملكتك من نعم وخيرات أفضل بكثير مما عند الآخرين. حفظ الله قادتنا وأدام عزنا ونصر جندنا ووقانا شر من به شر ودمت عزيزاً يا وطني، وإلى لقاء والسلام.