د. محمد عبدالله العوين
لكل مدينة كبرى أو صغرى من مدن العالم تاريخ قديم متوارث مرت عليه مئات السنين واحتفظ بطابعه التقليدي؛ فبقي شاهدا حيا ينطق عبر أزقته الضيقة القديمة المرصوفة بالحجر، مدن تمنحك عبق التاريخ من خلال مبانيها القديمة الجميلة التي أحالها تعاقب القرون إلى شيء من السواد فمنحها قيمة أعلى؛ بحيث أصبحت وثائق تاريخية تتحدث للأجيال الحاضرة فصولا طويلة من تاريخ الآباء والأجداد.
وكلما كان وسط أية مدينة موغلا في قدمه أصبح أكثر متعة للعين وأغنى للعقل وأثرى للمعرفة وأشد جذبا للزوار؛ بحيث لا يستغني أي سائح عن زيارة وسط المدينة التاريخي والتجول فيه، وربما وقع عشاق القديم على اختيار فندق أو نزل قديم للسكن فيه وسط الحي التاريخي.
ومن أبجديات السياحة أن يطلب السائح من استقبال الفندق خريطة المدينة وتحديد وسطها أو «الداون تاون « فمن خلال تجواله التاريخي وقراءته في الأدلة السياحية يستطيع الإلمام بماضيها المغيب الذي لم يبق منه إلا المباني العتيقة والأزقة الضيقة، والمدن الحديثة العصرية ليس فيها دفء الماضي ولا غناه الروحي ولا دلالات نمنماته ولا إشارات زخرفاته المعشقة ولا انحناءات أقواسه المحفورة، وكأن البناء الحديث من الزجاج والإسمنت المسلح لا روح فيه؛ بل مادة صماء لا تنطق ولا توحي بأي دلالات؛ أما البناء القديم فمشيد من نبضات القلوب وخفق الأرواح وأناشيد الحياة.
لكل منهما نكهته، فبقاء القديم يمنح الحديث معنى خاصا، وتشييد الحديث يحفظ للتاريخ خلوده، وما من مدينة حديثة نشأت من العدم، أو تطاولت مبانيها دون أن يكون لها امتداد تاريخي باق كشاهد على ماضيها، وخذ مثلا الحي اللاتيني في باريس بتحفته التاريخية العلمية «جامعة السوربون» أو الحي القديم وسط بروكسل وساحة «قراند بلاس» التي تفرش بسجادة من الزهور سنويا تحيط بها المباني التاريخية، أو وسط أمستردام أو فيينا أو برلين أو ميونيخ أو مدريد أو برشلونة وغيرها من عواصم العالم.
في تلك المدن -على سبيل المثال- يتآخى القديم مع الجديد ولا يطرد أحدهما الآخر؛ بل يكمل بعضهما بعضا.
للقديم نفاسته؛ فحين اتجه الفرنسيون إلى الحداثة اختاروا لها فضاء جديدا بعيدا عن باريس القديمة؛ فبنوا مدينة «لاديفانسو» قريبا منها، وحافظوا على تاريخ مدينة النور.
ولعل السبب في صمود مباني تلك المدن على مدى مرور قرون زمنية عدة أنها بنيت من الحجارة والجير ومواد صلبة تحافظ على هيكلها العام وتحميه من التأثر بالأمطار الغزيرة وتراكم الثلوج والعواصف في أوقات اضطراب الطقس، وإذا بقي هيكل المبنى صامدا ولم يسقط أو يتآكل كان بالإمكان ترميمه وتجديد نقوشه والمحافظة على بقائه بإضافة ما يقويه ويساعده على الصمود.
ولنا أن نتخيل لو أن تلك المباني القديمة بنيت من مواد هشة كالطين فلن تصمد أكثر من خمسين عاما في مناخ عرف بغزارة الأمطار وتراكم الثلوج كما في معظم مدن القارة الأوربية..
يتبع