د.عبدالله بن موسى الطاير
البلقنة تعني تكرار تجربة البلقان التي بدأت حراكها الدموي قبل الحرب العالمية الأولى، واقتتلت دولها ردحاً من الزمن في حروب عرقية مدمرة أحرقت أهلها ومن حولها، ولم تستقر حتى اكتملت إعادة رسم خرائطها بنهاية عام 1999 إلى دول منها ألبانيا وبلغاريا واليونان والبوسنة والهرسك ومقدونيا وكرواتيا وسلوفينيا وكوسوفو.
أمريكا تدخلت بقوتها لتحسم الخلاف وتضع بصمتها على صفحة المستقبل بإخضاع الصرب للإرادة الجديدة، وبذلك تدعي أمريكا أنها حققت أحد مبادئ عدالة الحدود على أسس عرقية. فاختلاط الأعراق الذي حرصت عليه بريطانيا وفرنسا يشبه بالنسبة للفهم الأمريكي من يجمع النار والبارود في وعاء واحد.
من البدهي والحال هذه ألا تُتهم أمريكا بأنها تريد الخير المطلق بتوزيعها الشرق الأوسط إلى كانتونات عرقية أو دينية عنصرية. فلها في ذلك مصالح لا يمكن تجاهلها. ومن عجيب القدر أن إسرائيل قفزت أسرع من غيرها إلى مركب النجاة الأمريكي بالتمترس العرقي والديني بتبنيها قانون يهودية الدولة العبرية من أجل إخراج العامل الفلسطيني مسلماً ومسيحياً من مكون الدولة وإلغاء أي حق أو استحقاق لهم.
الفوضى الخلاَّقة أو ما يُسمى بلقنة الشرق الأوسط مصطلح سكّته وزارة الخارجية الأمريكية وأصبح يتردد في دوائر صناعة القرار الإستراتيجي والعسكري وله رواج أكاديمي في كليات الحرب الأمريكية. وعندما كتب الضابط في الجيش الأمريكي رالف بيترز مقالته بعنوان حدود الدم عام 2006م وأرفق بها خارطة مستحدثة للشرق الأوسط لم يكن يغرِّد خارج سرب التفكير اليميني المتطرف في أمريكا أو ما عُرف بأجندة اليمين المحافظ. كما أن مقالته وأبحاثه وكتبه وإن لم يتم تبنيها رسمياً لم تغب عن دوائر المخططين في البنتاغون.
بالنسبة لبيترز فإن الشرق الأوسط هو المنطقة غير المستقرة في العالم ولن تستقر إذا لم تنقلب أمريكا على معاهدة سايكس بيكو وتعيد توزيع دول المنطقة أسوة بدول البلقان التي نزع منها فتيل الاحتراب وأصبحت دولاً صغيرة آمنة مستقرة. فمن هي الدول المرشحة للبلقنة في الشرق الأوسط؟ إيران وتركيا ضمن أهم الدول التي وضعت في دائرة الاستهداف بيد أن برزنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق رأى أن البدء بهاتين الدولتين سيعني فوضى غير قابلة للاحتواء، ولذلك تم إرجاء البت في وضع الدولتين إلى وقت لاحق، والبدء بدول أقل تأثيراً وأسهل تفكيكاً كالعراق. الدول العربية والإسلامية المرشحة للبلقنة سوى العراق هي سوريا واليمن وأفغانستان وباكستان. والسؤال عن دول الخليج لم يكن وارداً على مستوى الأعراق ولكنه تم الولوج إليه من مصراع المذهبيات، كما هو الحال في مصر مع الإسلام والمسيحية.
الحروب التي تخاض حروب ضرورة، فهي بالنسبة لأمريكا جزء من إعادة توزيع الحدود السياسية بما يحقق الاستقرار وفقاً لرؤية الإمبراطورية الجديدة، وهي بالنسبة لدول المنطقة محاولة للدفاع عن الكيانات والمصالح القائمة. إنها بدون شك حروب المستقبل، ومن يخوضها من أجل إدامة الماضي أو الرجوع إليه سوف يخسر خسارة كبيرة، ومن سيخرج منها منتصراً هو المتورّط فيها وعينه على المستقبل بإحداثياته المستجدة، وتحالفاته غير المألوفة، وواقعه الذي سيكون في حالة طلاق بائن مع الماضي.
العراق وسوريا واليمن لن تكون كما هي بعد عشر سنوات من الآن، وأي تغيير في هذه الدول سوف يمتد تأثيره إلى الجوار، ولذلك فإن الذي يغرق في محاولة فهم الواقع ويستنزف جهوده في تفكيك العلاقات واستبيان التقاطعات بين الأحداث سوف يجد نفسه على قارعة الأمس الذي انتهت صلاحيته بمجرد وضع الحرب أوزارها، ومن يتمكن من خوض غمار الواقع المركب الذي نعيشه وعينه تستشرف المآلات فإن الحرب سوف تنقشع غمتها وهو يضع علامات المستقبل على حدود دولته ومكانتها فيما بعد بلقنة الشرق الأوسط.