في الحين الذي تعمل فيه المدارس العالمية على غرس مفهوم تحمُّل المسؤولية, وتربية المتعلم في جميع مراحله الدراسية على اتخاذ القرار ومن ثم تحمل تبعات ونتائج ذلك القرار؛ فإننا نعمل دون قصد على سلب المتعلم ذلك الحق, ونقوم بدلاً عنه بتحمل مسؤولياته وتحديد معالم سلوكه دون أن نشعر!
ففي مدارسنا يكاد يكون النجاح للجميع, ذلك ليس لأنه تم التركيز على مهارات أساسية فقط تم تجاوزها فاستحق المتعلم الانتقال إلى المرحلة الدراسية التالية، وهو المفهوم الذي قد نكون عملنا به تيمناً بالنظام التعليمي في الدول المتقدمة؛ بل إن الطالب لا يمكن أن يرسب في تعليمنا لأنه ببساطة لا يوجد رسوب!. ولا عجب أن يكون هناك ضغط على مديري المدارس لرفع نسب النجاح, في تنافس كمي يقرأ الأرقام لنسب طلاب كل مرحلة مقارنة بمدارس المنطقة ككل, وليس سراً أن يتم التسوية بين المدير وأحد المعلمين لزيادة طالب ما درجة أو أكثر ليحقق النجاح, أو حتى في بعض الحالات لمجرد أن يتميز بنسبة أعلى!. بغض النظر عما إن كانت تلك الدرجات المضافة منصفة في قياس أحقية الطلاب للانتقال إلى المراحل التالية أم لا, فهي في الحقيقة تشكل مشكلة أكبر, فيها تعزيز لمفهوم النجاح الذي يتحمل مسؤوليته المعلم ومدير المدرسة بدلاً من المتعلم نفسه!
ربما نكون قد تجاهلنا الخطوات التدريجية التي تتخذها المدارس في الدول المتقدمة كأمريكا مثلاً لتحقيق مفهوم النجاح للجميع, وهي ما تتخذه إدارة المدرسة بعد التواصل مع الأسرة وبعد المرور بالعديد من الخطوات لمعالجة الطالب المخفق, في صورة إنذارات ومناقشات وبحث عن سبب المشكلة لمعالجتها إلى الوصول إلى قوانين صارمة قد تصل إلى حرمان الطالب من حقه في جزء من الإجازة الصيفية في دروس تقوية أو مهارات تطوعية للمجتمع تخدم الجانب التعليمي الذي أخفق فيه، ليستحق أن ينتقل إلى المرحلة التالية جنباً إلى جنب مع تحقيق الأهداف التعليمية وتطبيق مفهوم: النجاح للجميع. بالتالي هو مفهوم يتحمل فيه الطالب المسؤولية الكاملة عن نفسه ومستواه ليحقق ذلك الهدف, دون أن تنتقل تلك المسؤولية إلى المعلم أو المدير, وفي الوقت ذاته لا يمكن المساس بكفاءة مخرجات التعليم.
جوانب متعددة في تعليمنا تم تحويل تحمل المسؤولية من الطرف الذي يفترض أن يكون مسؤولاً إلى الطرف الذي يجب عليه توزيع المهام والمحاسبة عليها. عند زياراتي لإحدى مدارس بروكلاين ضمن برنامج التطوير المهني النوعي للتعليم في أمريكا/ بوستن؛ كان من أول ما لفت نظري في جميع المدارس التي قمنا بزيارتها هو طريقة فتح باب المدرسة, فجميع الأبواب التي دخلناها كانت مغلقة من الخارج فقط, وذلك لحفظ الجانب الأمني للمدرسة لا غير, بينما كانت جميعها مفتوحة من الداخل، بمعنى أنها غير موصدة من داخل المدرسة, ويمكن لأي طالب الخروج وقتما يشاء! وهو عكس سياسة الدخول والخروج في مدارسنا!. كما أن الأبواب في المدارس الأمريكية مزودة بكاميرات خارجية يمكن معرفة من يريد الدخول ليتم السماح له بضغطة زر عن طريق الموظف الإداري المسؤول، وهو أول شخص يمكن أن تقابله إذا دخلت المدرسة، ليجيب على استفساراتك ويرشدك إلى طريقك داخل المبنى.
وجود أبواب مفتوحة من الداخل، وموصدة من الخارج فقط لضمان أمان المنشأة الدراسية لا غير, كان مما استوقفني لأتساءل عن جدوى أبواب مدراسنا التي صممت بطريقة معاكسة تماماً.. فالأبواب في مدارسنا مفتوحة من الخارج، ومغلقة من الداخل، وضعنا عليها رجلاً كريمًا يتفقد الخارجين من المبنى أكثر من الأشخاص الذين يهمون بالدخول!
عند دخولنا لأكبر مدرسة ثانوية في منطقة بروكلاين/ بوستن في أمريكا؛ كانت الساحة الخارجية مليئة بالطلاب دون مراقبة ولا مشرف ولا معلم يضمن عودتهم بعد فترة الاستراحة التي كانوا يستمتعون بها في الخارج، فهناك مجموعة تحاول الاسترخاء تحت الشمس على العشب الأخضر ومجموعة تستمتع بوقتها على أحد كراسي الحديقة الخارجية وأخرى تتحدث على عتبات بوابة المدرسة نفسها؛ كل هؤلاء الطلبة كانوا في وقت الدوام الصباحي خارج المبنى الدراسي ومستعدون للعودة والدخول في أي وقت.
طلاب في الخارج يمرحون, ويستمتعون بوقتهم, فليس منهم أحد يحاول الهروب من فوق الأسوار, ولا يوجد بواب خاص أمام المدرسة تشقيه متابعة عودتهم إلى الداخل بعد انتهاء فترة الاستراحة! كانت عيني تتفقد أحوالهم المختلفة وعقلي في مكان آخر, كله استفسارات تدور حول زاويتين: الزاوية الأولى كانت حول أي مدى تلتزم به المدرسة في مسؤوليتها اتجاه الطلاب من حيث إثارة دافعيتهم للعودة إلى داخل المدرسة بدلاً من الهروب مثلاً أو العودة لمنازلهم في غياب الرقابة والسلطة. والثانية: عن القدر الذي يتحمل فيه الطلاب أنفسهم المسؤولية الكاملة لعودتهم وتقيدهم بالحضور الكامل وعدم التغيب, وهو بطبيعة الحال ما قادني إلى التساؤل عن جدية نظام متابعة الحضور والغياب داخل الصف! انقطعت تلك الأفكار المتسلسلة عندما هممنا بالدخول عن طريق الضغط على زر مرتبط بكاميرا تأكدت المسؤولة عنه من الداخل عن هويتنا ثم أتاحت لنا الدخول.
بعد زيارة المدرسة ولقائنا المفتوح مع مديرها كان من أول الاستفسارات التي حرصت على وجود إجابات عنها، هو ذلك الباب المفتوح وسياسة متابعة الحضور والغياب لطلاب المرحلة الثانوية! شرح لنا مدير الثانوية سياسة الحضور في مدرسته حول مدار تحمل الطالب كامل المسؤولية في قرار الحضور من عدمه, وفي حالة أن المتعلم اتخذ القرار الخاطئ وقرر التغيب أو الهروب من المدرسة فإن هناك جملة من الإجراءات الدقيقة التي تتدرج فيها إدارة المدرسة مع الطالب وأسرته للوصول إلى نتيجة مرضية.
تذكرت سلسلة من الإجراءات التي تعمل عليها الكثير من المدارس الثانوية في نظامنا التعليمي في محاولة الحد من نسبة الغياب وضبط حضور الطلاب داخل الصف, وقفز إلى ذهني حالات الهروب من المبنى المدرسي أثناء اليوم الدراسي التي تعدت محاولات الطلاب الذكور أنفسهم إلى حالات فردية من بعض الطالبات الفتيات. ففي تعليمنا نتسول الجدية من الطالب في الحضور ونحفزه بطريقة تحولت فيها مسؤولية الحضور على المدرسة نفسها بدلاً من المتعلم! ولازالت مدارسنا تحاول أن ترفع نسبة حضور الطلاب بشتى الطرق والوسائل لدرجة أن بعض المدراس أعلنت وجود مكافأة للطلاب على الحضور في فترة معينة من الفصل الدراسي, وذلك بالطريقة التي يحب أن يكافأ بها، كزيادة بعض الدرجات للمواد التي يختارها المتعلم أو حتى طلب وجبة إفطار من أحد المطاعم المفضلة لديه، بل إن بعض الإدارات كانت تحاول أن تداهن الطلاب وتساومهم على رفع مستوى حضورهم بشراء هدية يتمناها المتعلم لنفسه أو لمن يحب! إلى هذا الحد وصل التسول في انعدام جدية ومسؤولية الحضور من المتعلم وذويه إلى المدرسة نفسها ومديرها ومعلميها!
بعد أن تحدث مدير المدرسة في ثانوية بروكلاين العامة عن مسؤولية كل طالب عن نفسه وتحمله نتيجة قراره بشأن الحضور, أوضح أن نسبة الغياب التي يمكن أن تسمح بها المدرسة لا تزيد عن 15% طوال الفصل الدراسي, وأنه يمكن أن يقبل الغياب بعذر في حالة تواصل الأسرة مع المدرسة بإبلاغهم عن العذر قبل الساعة العاشرة صباحاً في اليوم الذي تغيب فيه الطالب, فالمدرسة مسؤولة عن إرسال رسالة صوتية ترسل بشكل تلقائي لولي أمر الطالب فيها استفسار عن غياب الطالب فقط، بينما الأسرة (مسؤولة) عن شرح الأعذار عن طريق الاتصال أو إرسال بريد إلكتروني توضح فيه أسباب تغيب ابنهم عن المدرسة في ذلك اليوم على أن يكون ذلك قبل الساعة العاشرة وإلا فسيتم احتساب الطالب غائبًا دون عذر, وفي حالة وجود ظرف يمنع تبليغ إدارة المدرسة عن عذر الابن فإنه يمكن استدراك ذلك البلاغ خلال ثلاثة أيام فقط, وما بعدها يتم احتسابه غائبًا دون عذر مهما كان ظرفه!
تألمت للتساهل الذي قد تعيشه بعض مدارسنا في متابعة غياب طلابها, وهو في أبسط صوره التي يمكن أن يقدم فيها الطالب ورقة خطية يشرح فيها عذره مدعياً أنها من ولي أمره, والعجيب أنه يتم التوقيع على تلك الورقة كعذر للطالب المتغيب حتى بعد أسبوع من غيابه، فالمهم أنه تم التوقيع من المعلمين المسؤولين عنه في ذلك اليوم والحصول على الموافقة على التغيب عن حصصهم بواقع العذر الذي شرحه لنفسه بلسان أحد والديه, والأدهى والأمر أن الطالب يعلم أن إدارة المدرسة تغض الطرف عن مصدر تلك الورقة وأنه يعلم أنها تعلم أنه من كتبها! وإن هذا النوع من انتقال المسؤوليات وتحولها -للأسف- يخلق منطقة هشة في تطبيق النظام, وإلا فإن النظام قد يضمن للجميع سير العملية التعليمية على أكمل وجه!
ففي مدارس أمريكا عندما يتعدى الغياب دون عذر النسبة المسموح بها، فإن الطالب يمر بمراحل تدريجية ممنهجة عالية المهنية، تقوم على آلية ردع وعقاب للحد من الغياب, وتحمل الطالب كامل المسؤولية عن حضوره, وجميعها إجراءات لا تمس كرامة الطالب ولا نفسيته، يمكن أن يتم تطبيقها تحت دائرة كبيرة من الاحترام لتحقيق النظام الحازم في موضعه. وقد كانت أول جملة في شرح سياسة الحضور في المدرسة الثانوية التي زودني مدير المدرسة بنسخة منها بعد أن استاذنته للاطلاع على تلك السياسة في مدرسته الثانوية: أن المدرسة مسؤولة عن رفع دافعية الطلاب للحضور اليومي والاستفادة من اليوم الدراسي إلى أكبر درجة ممكنة. (توزيع مسؤوليات بشكل دقيق جداً). أما حالات إخلال الطالب في مسؤوليته في الحضور وبلوغه الحد الأدنى من الغياب فيمكن معالجتها بجملة من الخطوات تبدأ بالتواصل مع الأسرة بإنذار صريح عن إمكانية تطبيق العقاب على ابنهم في حال استمرت نسبة حضوره في التدني, وفي مرحلة متقدمة يمكن للمرشد الطلابي التواصل مع الطالب نفسه من أجل الوصول لحلول, ويقدم له قائمة العقوبات التي سيتم تطبيقها عليها بوضوح وحزم شديدين، ومن جملة تلك العقوبات: أن يتم حرمان الطالب من الحصول على وجبته في ساحة الكافتيريا العامة، فيقوم بتناول وجبته لعدد من الأيام قد تزيد أو تنقص في غرفة الإدارة بعيداً عن زملائه, أو أن يتم حرمانه من الخروج إلى الساحة الخارجية في فترة الاستراحة المخصص له، ومنها احتجازه فترة أطول بعد نهاية الدوام, وقد تصل إلى حرمانه من النجاح في المواد التي تجاوز تغيبه فيها عن النسبة المتفق عليها, وفي تلك الحالة يتم معاقبته بإلزامه بالدوام الصيفي لتلك المادة أو القيام بأعمال تطوعية بالصيف، وذلك لا يعفيه من إعادة دراسة المادة واختبارها في نهاية الفصل الصيفي ليلتحق مع زملائه في السنة الجديدة.
إن توزيع المسؤوليات بشكل دقيق, والمحاسبة الجادة لأصحابها تحت نظام شديد الوضوح للمتعلم وولي أمره منذ بداية العام الدراسي قد يخفف عن كاهل المدرسة مسؤوليات ليست من شأنها, وتنشئ لنا جيلاً شديد الالتزام بمسؤولياته، قوي الثقة بنفسه، بدلاً من تسول الجدية في تحقيق النظام من متعلم مدلل نعول عليه في المستقبل الكثير.
** **
ماجستير المناهج وطرق التدريس - خبرات أمريكا / بوستن