يزداد نبض قلبك ابتهاجاً، حينما تشم رائحة الغداء الشهي كلما دلفت الباب. دون أن تقف للحظات خاشعة معبراً عن حمدك وامتنانك. تعبر بالصراخ والبكاء والركل، لحرمانك من شيءٍ ما كوجبتك المفضلة، فيتدخل قلب والدك الرقيق ليرضيك بأخرى غيرها، دون أن تقف لتتفكر في الرعاية الإلهية الحانية التي قلبت الموقف لصالحك، تتباهى بمقلمتك الملونة وحقيبتك الفاخرة وأحذيتك الرياضية القوية.. دون أن تراجع موقفك مع من ساق لك في الأصل هذا كله.
يزداد غرورك مع ظهور معالم صورتك الظاهرة كجسدك اليافع، وجمال ملامحك، وقوة بدنك، وبروز عضلاتك.. دون أن تلقي نظرة صوب صورتك الباطنة.. تحزن لخسارة منتخبك، أو إخفاقك في مادتك، فتجد من يسري عنك ويربت على كتفيك بحنو ورفق. وترى أن ذلك من حقوقك المشروعة.
تتعاطى مع زوجك بتقييم سطحي، وبتفاعل حسي، متجاهلاً نعمة وجود شريك محباً، مشاركاً وداعماً في رحلة حياته. لم نعتد أن نعطل عقولنا المزدحمة للحظات للتفكر في المراحل المعقدة والرحلات الطويلة التي قطعها غيرك لتلتقم شريحة خبز البر، وتتلذذ بالطعم الندي لحبيبات الأرز، وتلتهم ضلوع البقر المشوي، وتتنعم بمذاق الشاي المخدر، وترتشف كأساً آخر من عصير فاكهتك المفضلة.
تنفتح أمامنا أبواباً من النعم المتتابعة.. وتتنزل علينا ألواناً من المتع المبهجة.. وتحيط بنا كثير من التسهيلات المدهشة..
والسؤال الكبير هو: لِمَ، يتفاعل معها الإنسان بذهنية سطحية، ومرحلة عارضة ووقتية..؟ حتى وكأن الحياة مدينة له بوجوده فيها!؟.
لِمَ يتعذر التسامي به صوب مستوى حياة تشكلها، أحاسيس مكثفة من الحب والامتنان والشكر والرضا والابتهاج وكل المشاعر الإيجابية في كل الأوقات أو حتى أغلبها؟.
وفي المقابل لِمَ يسهل جذبه باتجاه مشاعر الحزن واليأس والخوف وكل المشاعر السلبية؟..
فمن التجارب البشرية المشتركة أن حياة الإنسان لا تخلو من الأخبار السيئة، والخسائر المريرة، وفضلاً عن الصدمات التي تتفاوت في درجة قوة تأثيرها، إلا أن الإنسان يسجل موقفاً مغايراً إزاءها؛ فهو يغوص بها بكامل كيانه، ويتفاعل معها بجميع حواسه، ويغمرها بفيض مشاعره، ويشتبك معها بخيوط أفكاره، ويسمح لها بأسره أغلب حياته.. ومن ثم فالانطباع العام للحالة النفسية: ارتفاع نبرة الاستياء، وزيادة حالات الاكتئاب، وعلو نبرات التذمر والشكوى وكثرة لغة المقارنات والاعتراض.
لا تجد واعياً بصيراً إلا وقد أدرك السر وراء تفاقم حالات الاستياء والشعور بالنكد المستمر.. على الرغم من فيوض الرزق ووفرة الخيرات وتنوع نماذج النعم: فالله جل جلاله لم نعرفه إلا معرفة (مدرسية عقلية) أنه الواحد الخالق الرازق.. ولم نربط قلوبنا بالله المحب، الرحيم، القريب، الرزاق، البر، الواسع، الوهاب، اللطيف، الغفور، الستير.. وكل الأسماء والصفات التي تزيدنا منه قرباً وله حباً وبه ثقة وتفويضاً.
إن أسرنا من جانب التفكير وإعطاء السيادة للعقل وحده في التحليل والتركيب، حدد علاقتنا بالله علاقة (الخاسر الرابح)! جرياً على سائر العلاقات البشرية السائدة.. أضف لذلك أن رفع مستوى (الأهمية، وزيادة الرغبة والتعلق)، تجاه كل شيء سمح لهلع الإنسان أن يتسع رغبة منه في ابتلاع كل شيء {إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} 19 المعارج، أو حتى لإحكام قبضته تجاه مجريات الأحداث لكل شيء! {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} الغاشية 22. ولو أنه قلل من الأهمية المزعومة والرغبة المحمومة. لوجد من أقدار الحياة ما تكفيه للتنعم بالموجود، وما يترفع به عن التعاطي المنهك مع المفقود.
ولا يعي الإنسان «النكد» أنه في كل مرة يرفع صوته بالسخط والاعتراض، صدى صوته سيرتد إليه كما أرسله! وستجيبه مرآة الكون: بأن لك ما تريد.. فيزداد واقعه قتامة وسخطاً. وأنه بهذا وبمحض ارادته قد طمر النضارة، ووأد الترفه، وتنكر لحياة النعيم. بعد هذا هل تتفق معي بأنك ابن الحياة المدلل، فلم تفضل حياة التعاسة والنكد؟