تنازعني فكرة هذا الموضوع منذ زمن حتى جاء الوقت الذي ألقيت فيه نظرةً على كَنَّاشاتي وتأملتُها فلمْ أرَ غيره مستعلياً على كل انثيالاتي القديمة، فكيف بي وقد تفَيَأتُ هذا الصيف ظلال معجم الأدباء لياقوت الحموي، فلا أدري أتعبث بي الأبيات؟ أم أعبث بها؟! وحُقَّ للنقد أن يبقى بعيداً نواله حتى إذا تزينت ذاكرةُ حفظِك بمزيد من المقطعات جاءك هرولةً.
يبدو لي أن الأدب قافلة من الجِمال لا تَرِدُ إلا من بئر الغياب، فإذا لم تجده سقطت مغشياً عليها.
الخوف من غياب لفظة «نعم» وبالتالي أن تبقى المنى حبيسة الصدور أهون وجعاً من انكشاف الحُجب، وفي ذلك يقول جميل:
«ألا طال كتماني بثينة حاجةً
من الحاجِ ما تدري بثينة ما هيا
أحاذر أن تعلم بها فتردها
فتتركها ثقلاً علي كما هيا».
في حين يبوح سليمان بن أبي طالب الحلواني بحاجة جميل بمثل لوعته، مختلفاً في نبرة صوت النص: صوت حزين أُعيدت له الحياة، إنعاش ولكن قد تغيب أيضاً:
«ماذا عسى يصف من شوقه مشتاق يُقَدِّم قَدَماً، ويؤخِّرُ أخرى، بين أمرِ أمير الشوق، ونهي نهى الهيبة، فإنْ رأيتَ أن تُقِلَّهُ من علله بالإذنِ له فما أولاك به، وأحوجه إليه...».
وقد يكون الغياب ممدوحاً إذا كان كالليل والنهار:
«تواصلنا على الأيام باقٍ
ولكن هجرنا مطر الربيع».
لكن طينة الشعراء تختلف:
«فقلتُ لقلبي حين خَفَّ به الهوى
وكاد من الوجد المبر يطير
فهذا ولما تمضِ للبينِ ليلة!
فكيف إذا مرتْ عليك شهور؟»
وتمتزج الذوات: المُخاطَبة، والمُخاطِبة بلحظة حضور أشبه ما تكون بغروب الشمس؛ يقول أحدهم وهو يُمْسِك مقِبض باب الغياب بيد مرتعشة، واصفاً نصف روح، ونصف جسد:
«ولما حدا البينُ المُشِتُّ بشملِنا
ولمْ يبقَ إلا أنْ تُثارَ الأيانِق.
ولمْ نستطعْ عند الوداعِ تصبرا
وقد غالنا دمعٌ عن الوجدِ ناطق.
ولما وقفنا لتوديعٍ كادت نفوسنا
لأجسادنا قبل الوداع تفارق»
وفي ذات السياق بل أشد حرجاً؛ حيث يتشبث الحبيبان بآخر نظرة، حتى ولو كانت لا تصل إلى كل ملامح المحبوب:
«لما أناخوا قبيل الصبح عيرهم
وَرَحَلوها فثارت بالهوى الإبل.
وقَلَّبتْ من خلالِ السجف ناظرَها
ترنو إلي، ودمع العين منهمل».
وليس الغياب في حد ذاته هو العامل المُحرك لنشوء النص بل إن معطيات السنن تجعل الإنسان فضلاً عن الشاعر قلقاً، متوجلاً من حادثات الزمان، يقول عبد الرزاق عبد الواحد لزوجته:
«ويا ويلنا من يوم يرحل واحدٌ
ويبقى الذي يبكيه حّدَ التسولِ».
يتحول هذا الشبح إلى بلاد تستقطب الأحباب:
«دعتك بلاد الغائبين فهل بها
وقد غبتَ فيها ما يُسِر الخواطِرا؟
وجدتَ بها ماذا لترضيك هكذا؟
وتصبح إرضاءً لها أنت هاجرا؟».
وبينما نجد أن الجواهري يتعلل بوصال الروح في «ناجيتُ قبرك»:
حُييِتِ أُمَّ فراتٍ إن والدةً
بمثل ما أنجبت تُكنى بما تلد
تحيةً لمْ أجد من بثِّ لاعجِها
بُدّاً وإن قام سداً بيننا اللحد.
بالروحِ رُدي عليها إِنَّها صلةٌ
بين المُحِبين ماذا ينفع الجسد؟».
نجد أن عبد الرزاق عبد الواحد أعيته الوسائل عن التسلية:
«ولو كان في سفح الدموع تعلة
غزلتُ دموعي طول عمري بمغزلي».
والغياب فعل متعدٍ إلى كل شيء حتى الصبا، وكأنما الجبال ما وجدتْ إلا لتحبسها عن القائلة:
«أيا جبلا نعمان بالله خليا
نسيم الصبا يخلص إلي نسيمها.
أجدُ بردَها، أوْ تشفِ مني حرارةً
على كبدٍ لمْ يبقَ إلا صميمُها.
فإنَّ الصبا ريحٌ إذا ما تنسمتْ
على نفسِ مهمومٍ تجلتْ همومها».
وكغياب العمر، الطفولة مثلاً:
«ما ثَم مِن ذكرى طفولتِكم سوى
قلبٌ على أطيافهم يتأرجحُ».
** **
- امل محمد طوهري