إذا كان الإنسان كائناً اجتماعياً، أي لا يمكن أن يمارس إنسانيته دون المجتمع، كيف يمكن أن يكون مستقلاً؟ وإذا كان ذلك ممكناً فما هو الاستقلال؟ وما هي الحرية؟ وهل يجوز التعامل مع هذه المفاهيم بمعناها المطلق؟ وهل يمكن التصور أن هذه المفاهيم وغيرها انبثقت لدى الإنسان دفعة واحدة؟
وإذا كانت الحضارة هي بلوغ المجتمع البشري مرحلة الزراعة وتدجين الحيوانات، أي صناعة الإنسان لغذائه بنفسه دون الاعتماد على ما تجود به الطبيعة، وإذا كان النشاط الحضاري هذا لا يمكنه أن يحدث بدون لغة، فهذا معناه أن اللغة، كضرورة للتواصل بين البشر، هي أقدم من الحضارة! ولكن اللغة ذاتها ليست منجزا اجتماعيا ثابتا ولا يمكنها أن تكون! فهي كأي ظاهرة اجتماعية تنمو وتتطور تبعاً لنمو المجتمع.
وإذا تصورنا ولو للحظة أن الكلمات أي المفاهيم انبثقت دفعة واحدة، فلا بد إذن أن تكون للبشر كلهم لغة واحدة! ومن المفترض أن الطفل الوليد حديثاً تنبثق لديه الكلمات كلها دفعة واحدة وهو المستحيل بعينه.
إذن المفاهيم اللغوية كالحرية والاستقلال والعرف الاجتماعي والتخلف والحرب والسلام وغيرها، لم تنبثق في الوعي الاجتماعي دفعة واحدة، إنما في مراحل تاريخية مختلفة حسب الحاجة التطورية للمجتمع. وبهذا المعنى تصبح المفاهيم هي منجز اجتماعي بالرغم من أنها تنبثق افتراضاً في وعي فرد واحد ثم مجموعة صغيرة من الأفراد ثم تتوسع لتشمل الفكر والممارسة الاجتماعية بأسرها.
وإذا كان الاستقلال أو الحرية تعنيان تجرّد الفرد من الالتزام بالنُظمْ الاجتماعية، فهذا معناه أنه لا يوجد فرد واحد من البشر يتمتع بالاستقلال أو الحرية إلا عندما ينعزل في كوكب لا أحد فيه وهذا مستحيل أيضاً! وإذا طبقنا نفس المنهج على المجتمعات، فهذا معناه أيضاً أنه لا يوجد مجتمع مستقل أو حر إلا عندما يكون منعزلاً عن المجتمع البشري كله! إذن الاستقلال والحرية وغيرها من المفاهيم التي انبثقت في مراحل تاريخية مختلفة، لا يمكن تناولها بمعناها «المطلق» الذي يخرجها من سياقها التاريخي والعملي. كما لا بدّ من الاعتراف ليس «بنسبيتها» وحسب، إنما «بتطوريتها»، أي أن المفهوم له تاريخ ميلاد، وهو ليس ثابتاً حسب أبعاده التي ولد بها، بل يتطور حسب المراحل التطورية للمجتمع الواحد والمجتمع البشري كنسيج عام أيضا! فمفهوم «استعمار» قد يكون قد انبثق في أوروبا خلال القرن الخامس عشر، ولكن ليس بالمعنى والممارسة التي نفهمها في عصرنا الحالي!
عندما اكتشف الأوروبيون أميركا استولوا على الأرض وأبادوا سكانها الأصليين، ثم أطلقوا على ذلك الفعل أسم «استعمار»، ولكنه بمفهومنا نحن حالياً هو «استيطان»، لأنه وبالرغم من بربريته هو استبدال «شعب» بمجموعة من «البرابرة الحضاريين!» - إذا صح التعبير - وإنشاء «مجتمع» بديل. أما مفهوم الاستعمار حالياً، سواء كان عسكريا أو سياسياً أو اقتصادياً أو كلها مجتمعة، هو جعل الشعوب تحت هيمنة البرابرة ليكونوا عبيداً لهم يقدمون المواد الخام ويستهلكون البضائع.
** **
- عادل العلي