تعريف:
بِلشا: اسم رواية للكاتب والروائي السعودي الأديب: عبدالجبار الخليوي، وهي صادرة عن الوادي للثقافة والإعلام بالقاهرة، للعام 2018م، وقد حصلتُ عليها من معرض الرياض الدولي للكتاب هذا العام بسعرٍ زهيد.
المؤلف له عدة روايات أخرى ممتعة وبارزة، منها: التكية، العزبة، قندة، الجاخور، وأخيراً رواية (بِلشا) التي أمامكم الآن.
هذا المقال سيتناول بعض الجوانب الفنية دون التعرض للمضمون، حيث إن رواية (بِلشا) تعتبر جديدة في السوق، ولم يكتمل عامها الأول بعد، ولا بدَّ أن يتم منحها وقتاً للتسويق والانتشار قبل التعرض لمضمونها وتحليله.
إن التعرض لمضمون أي رواية قبل مرور عدة سنوات على نشرها يفسدها على القارئ، لذلك فإنه يتوجب على الناقد عند دراسة رواية جديدة عدم التعليق على أحداثها بالتفصيل، ويكتفي أخذ الجوانب الفنية فقط، وبحذَرٍ أيضاً، فالرواية تختلف عن القصة القصيرة في الدراسة، كما أنها تختلف عن القصيدة؛ إذ يمكن تناول القصيدة نقداً بكامل الجوانب حتى قبل انتشارها، وسأحاول التطرق للمهم دون الإفساد على من لم يقرأها بعدُ متعة القراءة.
أبعاد الرواية:
(بلشا) رواية واقعية في التصنيف الأدبي، ويجدر بنا أن نكون في زمن الواقعية، فالمتلقي لم يعد لديه من الوقت ما يكفيه للاستمتاع بالروايات الرومانسية الحالمة، أو بروايات الخيال العلمي كما قبل ثلاثين سنة أوأكثر، فالواقعية عادت إلى الساحة الأدبية بكامل قوتها شعراً ونثراً، وليس إلى الرواية فحسب، ولكن الرواية باعتبارها تحتاج إلى وقت أكثر للجلوس للقراءة؛ فإنه من الصعب اجتذاب القراء بما لا يتناسب مع ذائقتهم وميولهم الآنيَّة، لهذا فالرواية الواقعية مهما اختلف عصر كتابتها تظل مسيطرة ومستمرة لدى القارئ، وتظل هي الباقية للأمد البعيد، كما أن المتلقي الآن بحاجة إلى الفائدة والمتعة معاً، ولم يعد بحاجة للفائدة فقط أو المتعة فقط.
أما (البُعدُ الزمنيُّ) لرواية (بِلشا) فهو الزمن الحاضر، عصر وسائل التواصل الاجتماعي، عصر (السناب) و(تويتر) و(انستقرام) وغيرها.
أما (البُعد المكاني) فمكان أحداثها مدينة (الرياض) ذات الأحياء الحديثة، تلك المدينة الصاخبة المليئة بالضوضاء، السارقة للحياة كشأن المدن الحديثة، وهي أيضاً المدينة الخافتة في أماكن أخرى، حيث تحتوي في جنباتٍ منها على الأحياء القديمة، المفعمة بالهدوء والسكينة، الهانئة في ظل البساطة المعيشية.
مدخل:
اختار الكاتب لروايته اسم بطلة الرواية (بِلشا) عنواناً لروايته، وسيتفاجأ القارئ أن بطلة الرواية مجرد عاملة منزلية (شغالة) قادمة من إفريقيا للعمل لدى أسرة سعودية ثرية، لكن هذه العاملة صنعت تلك الأحداث لتكون جديرة بحمل اسم البطولة في هذه الرواية.
تبدأ أحداث الرواية عندما وافقت البنت المدللة (سَحَر) على الزواج من (عبدالمجيد) ابن خالتها لطيفة، الذي كان يحبها منذ الطفولة، بعد رفضها له سابقاً باعتبار أنه قريبها، وتراه مجرد أخ، بينما قد يكون المانع أن أسرته متوسطة الدخل مقارنة بأسرة (سحر) الغنية، ولكن بعد مرورها بتجربتين فاشلتين لزواج لم يتم وافقت أخيراً على (عبدالمجيد) الذي ظلَّ مترقباً لمحبوبته، ولم يستعجل باتخاذ قرار الزواج من غيرها رغم علمه بخطبة سحر في المرة الأولى ثم الثانية.
المدللة (سحر) كبنات جيلها، منشغلة بالشكليات، ولاسيما من تعيشُ في بُلهنيةٍ تلهيها عن الاهتمام بالأساسيات، ولكنها لن تعان مادياً بعد زواجها من (عبدالمجيد) فلن تعتمد على راتب زوجها وما يمنحه لها منه، فلديها راتب وظيفي باعتبارها تعمل معلمة في مدارس والدها الخاصة، بالإضافة إلى هدايا الوالدين الكريمين، ورغم شهامة (عبدالمجيد) وكرامته وعزة نفسِه؛ إلا أنه لم يمانع في أن تحصل حبيبته على الهدايا من والديها، فبالإضافة إلى المنزل (الفيلا) التي أهداها والدها لها فقد تنازلت والدتها لها عن العاملة الآسيوية (ليدا) التي كانت مهمتها خدمة (سحر) والاهتمام بشؤونها، ولكن مع حاجة سحر لعاملة أخرى ولاسيما بعد حملها، فقد سعت لاستقدام عاملة إفريقية، واشترطت أن تكون كذلك حتى لا تجتمع لديها عاملتان من ثقافة واحدة لكي تبقى السيطرة بيدها، وهكذا أطلت علينا (بلشا) بطلة روايتنا.
سيطرت المدللة (سَحَر) على أحداث الرواية في البداية، لدرجة أنها بصناعتها للأحداث يعتقد القارئ أنها البطلة الحقيقية للرواية، فقد استطاع الكاتب بأسلوبه الروائي المتمكن من منحها تلك الشخصية القوية والمؤثرة، ولولا عنوان الرواية لاعتقد القارئ في البدايةِ أنها البطلة، وبكل سلاسة أسلوبية جعل بطلة الظل (سحر) صانعة للأحداث منذ الإطلالة الأولى لها، وسلط عليها الأضواء، لدرجة أن القارئ فيما بعد أصبح يتشوق للعودة إلى معرفة حياتها في حال انسياقه خلف البطلة الجديدة التي صنعتها، فسحر هي الصانعة للبطلة الحقيقية في الرواية كما أراد الكاتب، ولكن سرعان ما لبثت (بلشا) أن تسحب البساط من تحت أقدام (سحر) وتتصدر الأحداث، وكأن الروائي الخليوي مدربٌ لسباقٍ مارثوني مثير، جعل من (سحر) أرنبَ سباقٍ سرعان ما أفسح المجال للبطل الحقيقي لكي يتصدر ويحرز قصب السبق، ومع ذلك لا يزال القارئ مفعماً بالحكاية.
العقدة والحل:
بما أن لكل رواية عقدةً وحلا؛ فالتفاصيل الدقيقة المشوقة لحياة الأبطال داخل الرواية تجعلك لا تهتم بالبحث عن المشكلة (العقدة) لكي تتشوق لنهايتها أيضاً، لأنك مشغول هنا بالمتعة القرائية، ومع ذلك ستنصدم في خضم استمتاعك بالأحداث المسرودة أمامك بدخولك في تفاصيل (العقدة) نفسها، وذلك باقتران تغيِّب (بلشا) واختفائها أو هروبها بفقدان ابن مخدومتها (سحر) الرضيع (عامر) الذي كان قد ولد بعد قدومها، فتنساقُ مجبراً للغوص مع كل الأطراف ذات العلاقة وغير ذات العلاقة بفك رموز أحداث هذه الرواية، والبحث عن الحل.
لقد استطاع الروائي (عبدالجبار الخليوي) من الاستحواذ على تركيز المتلقي دون إزعاجٍ له، ودون أن ينغِّص عليه التلذذ بمشاهدة العرض القِرائي أمامه، فلم يقطع عليه متعته، ولم يشوِّش عليه بصناعة أحداث مملة لا تتناسب مع واقعية الرواية، بل مكَّن القارئ من الاشتراك مع أبطال روايته في الأحدث وفي صناعة العقدة وفي البحث عن حل لها؛ مثلما شاركه في صناعة الأحداث الجانبية الأخرى.
لغة الرواية:
امتازت رواية (بِلشا) ببساطتها اللغوية، فلم يلجأ الكاتب لتعقيد لغته أو تحليَة عباراته بما لا يفيد الرواية مضموناً، فاللغة راقية وسهلة في متناول القارئ، وواضحة جلية في سبر الأحداث، إذ تناسبت هذه اللغة مع مضمون الرواية، فهذا المضمون لا يتحدث عما يعيشه المجتمع الحالي أمام الكواليس فحسب؛ بل ما يعيشه خلف تلك الكواليس المجتمعية أيضاً، ويُسفِرُ عما يظهر للناس وعما يبقى في البيوت من خصوصية، فتقدمُ الرواية عملاً درامياً عظيماً، هذه (الدراما) تحملُ وصفاً دقيقاً لصغائرَ نعتقدها كذلك، بينما هذه الصغائر قد تتسبب في كوارث لا تتعالج، لا يمكن للزمن أن يعالجها أو يعدِّلَ من مسارها، هذه الصغائر بعثها (الخليوي) في الرواية، ورمى بها أمامنا ليرينا ما كنا نتجاهله عمداً أو تغافلاً، فنبتعد بالوهم عن منغصات لا تعنينا، مع أنها تعنينا في الحقيقة.
التصنيف العُمْري للرواية:
الجميل إنني وجدتُ أن هذه الرواية صالحة لكل الأعمار، فمن عاش هذا الواقع وبظروف الرواية سيجد أن كل الأعمار تعيشه، فرب الأسرة وربة البيت ممن لديهم عمالة منزلية مَدعُوُّون لقراءة هذه الرواية، هم وأولادهم بنينَ وبناتٍ بلا حُجب تمنعهم، وأرشحها لكل بيت ليتداولوا قراءتها كما فعلتُ مع أسرتي.
كما أن الرواية من حيث المشاهد أو الأحداث التي تتناول العلاقة بين الذكر والأنثى لم ينزل فيها الكاتب للابتذال والانحطاط، كما فعل غيره في رواياتٍ محلية للأسف، ولم يجعل تلك الأحداث الطبيعية حَجرتي (رحَى) يطحن بينهما الرواية وقراء الرواية، ويطحن بينهما المجتمع، بل تركها تنساب كما تنساب في الحقيقة، دون أن يجعلها صبغة وهدفاً يصور فيه المجتمع على أن أفرادَه مجرد بهائم تبحث عن إشباع الغرائز، فحملت الرواية عدة رسائل هادفة لا تزعج المتلقي وتخرجه عن متعة القراءة، ولا تخدش الحياء لصنوف القراء، كما أنها من جهةٍ أخرى لم تحوِّل الفنَّ الأدبيَّ إلى وعظٍ لا يستسيغه القارئ.
أخيراً:
مثل هذه الروايات التي يكتبها (عبدالجبار الخليوي) تجعل المهتم بالساحة الأدبية يفرح ويستبشر، ولاسيما وزمننا زمن الرواية، وكم أتمنى أن يتم ترجمتها لعدة لغات لتنقل للعالم بعض التصورات الحقيقية عن مجتمعنا، فما كان سائدا من بعض الروائيين السعوديين لا يمت لواقعنا بشيء من الصِّلات، فما كنا نقرأُه من روايات وقصص لمؤلفين وطنيين كانت مجرد بضائع مقلدة يرفضها كل عاشق للرواية، لأن القارئ سيجد من يصور بيئات المؤلفين خيراً من المستورد الذي سيكون هجيناً بالحتم، وكذلك مثله مثل من يستورد قِيَماً غريبة وهجينة، لا تستقيمُ فطرةً ليجعلها تمثل بيئته وبيئة مجتمعه بالقوة، وكأنه يود الانسلاخ من الصحراء والجمل، ومن النخلة والخيمة، ومن شوارعنا وطرقنا وأسواقنا وبضائعنا، ومن مقاهينا ومجالسنا، ومن كرمنا ومبادراتنا، ومن كلِّ قِيَمِنا، ومن أشكالنا وطريقة حياتنا، فتبدو الرواية أو القصة كحال الحسناء حينما تغمسُ في الوحل، أو كالإنسان الغني حينما يلبسُ ثوباً متسخاً أو خَلِقاً مُرقعاً لا يليق بغناه.
فما أجمل الروايات المحلية حينما تكون بيئتها كبيئة (بلشا) ويكون أبطالها كأبطال (بلشا)! وما أجمل الروائيين والشعراء السعوديين حينما يعبِّرون عن مجتمعنا، ويجعلون الأدب يتحدث بألسنتنا! وهنيئا لنا برواية (بلشا) وبالروائي عبدالجبار الخليوي.
** **
- د. أحمد آل طارش الفيفي