أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: طال حديثي عن حكم الظالم نفسه؛ لأن اختلاف العلماإ في هذا الحكم واسع جداً؛ لهذا آثرت أن أختم هذه المسألة بهذه السبتية؛ لأتفرَّغ لمسائل أخرى؛ وتكون الإطالة في كتيبي عن هذه المسألة؛ فالصواب اليقيني الذي أقسم عليه بعض الصحابة رضوان الله عليهم: أن الظالم نفسه في سورة فاطر من أهل الجنة بَدْأً، ولا يدخل النار أبداً؛ ذلك أن من الظالمي أنفسهم: المؤمن العاصي؛ فهو بإيمانه من أهل الجنة بَدْأً ولا يدخل النار أبدا؛ وهو بظلمه تحت مشيئة الغفور الودود ربنا سبحانه وتعالى: إن شاأ عذَّبه إلى أجل، وإن شاء غفر له فأدخله الجنة بَدْأً؛ وهذا الأمر الأخير مطرد في كرم ربي ورحمته؛ فلما وردت الآية من سورة فاطر خصوصاً: علم بأن مشيئة الله في الظالم نفسه الذي هو تحت المشيئة قضت بأنه من أهل الجنة بدأً.
قال أبو عبدالرحمن: من المؤلم أن يكون جمهور العلماإ، وجمهور مقلديهم يذهبون إلى أن الظالم نفسه في سورة فاطر بمعنى من رجحت سيئاته، وأنه الكافر؛ فانظروا كيف تفرّقت بهم السبل، وفهموا كتاب الله على غير مراد الله؛ ثم تأملوا الآيات الأربع الكريمة، وهذا نصها: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} [سورة فاطر/ 32 - 35]؛ فهي آيات جلية لا تحتمل الظنون؛ فهؤلاإ الثلاثة: الظالم، والمقتصد، والسابق: كلهم مصطفون من ربهم؛ وكلهم فازوا بالفضل الكبير.. والنص الكريم: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ} (34) سورة فاطر، ولم يقل (وقالا الحمد لله )؛ فالآيات عن الأصناف الثلاثة، وليست عن المقتصد والسابق وحسب؛ وكثرة القائلين ليست معياراً؛ فليس أكثر الناس على صواب؛ بل المصيب من حقق ودقق، وسوى بين المتساويين، وفرق بين المختلفين؛ وما لم يفتح له فيه يفوضه إلى ربه كي لا يقول على الله بغير علم.. كما أنه ليس أكثر الناس بمؤمنون؛ ولهذا قال أهل التحقيق: لا تعجب ممن هلك كيف هلك؛ وإنما اعجب ممن نجا كيف نجا.. ولقد خرج الإمام أبو محمد عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي [ - 327 هـ] رحمه الله تعالى؛ الأحاديث؛ وذلك في كتابه النفيس (تفسير القرآن العظيم مسنداً عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين) الصادر عن دار ابن الجوزي/ طبعتهم الأولى عام 1439 ميلاديا؛ في المجلد الثالث عشر ص 166 - 171: ساعد محقق الكتاب الأستاذ الدكتور (حكمت بن بشير بن ياسين) تحقيقها دلالة وثبوتا.. [قال أبو عبدالرحمن: جمهور من المسلمين يسمون أحد أولادهم (ياسين) على أن ذلك اسم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعليهم إذن أن يسموا (كفهيعص)، و(الم)، و(الر)!!؟]؛ فوجد الأحاديث يقوي بعضها بعضا على أن الظالم نفسه من أهل الجنة بدأً.. قال في تخريجه: ((عنابن عباس [رضي الله عنهما]، في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}، قال: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. ورثهم الله كل كتاب أنزل؛ فظالمهم مغفور له، ومقتصدهم يحاسب حساباً يسيرا، [؛ قال أبو عبدالرحمن: الأصح: فظالمهم ومقتصدهم مغفور لهما، ويحاسبان حساباً يسيراً] وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال في هذه الآية {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}، قال: هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة، وكلهم في الجنة.. وعن عقبة بن صهبان قلت لعائشة: أرأيت قول الله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ ...}؟ قالت: أما السابق فقد مضى في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فشهد له بالجنة، وأما المقتصد فمن اتبع أمرهم؛ فعمل بمثل أعمالهم حتى يلحق بهم، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك، ومن اتبعنا؛ وكل في الجنة)) [قال أبو عبدالرحمن: رضي الله عن أم المؤمنين عائشة إذ لم تزك نفسها] .. وإلى لقاءٍ في السبت القادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.