د.محمد بن عبدالرحمن البشر
لن أطرق باباً جديداً عندما أكتب عن الاقتصاد الإنتاجي والاستهلاكي والفرق بينهما، فذلك معلوم عن الكثير، بقدر متفاوت من التفصيل والإيجاز، لكن ما يمكن الإشارة إليه أن هناك ظروفاً معينة في بلد ما أو مجموعة بلدان تجعل متخذ القرار يحاول أقلمة أنماط الإنفاق والاستهلاك لتتجه إلى الجهة التي يراها صواباً.
في رؤية 2030 التي يقودها صاحب السمو الملكي ولي العهد حفظه الله، يظهر جلياً أن هناك اتجاهاً لدفع بالاقتصاد الإنتاجي إلى الأمام، في ميادين شتى مثل الصناعة، والخدمات، والسياحة، والتعدين، مع الاستفادة من الثروات الكبيرة المتاحة في المملكة.
والاقتصاد الإنتاجي سوف يعمل على توفير فرص التوظيف، ورفع كفاءة الفرد، وتوفير العملة الصعبة، أو جلبها من خلال التصدير للأسواق العالمية. ولاشك أن ذلك سيكون رافداً كبيراً للاقتصاد، كما أنه سوف يحد من تدفق العملة الصعبة من المملكة إلى خارجها، كما أن رفع كفاءة الفرد محلياً سيحد من الحاجة إلى الخبرات الأجنبية، وهذا سيعمل على توفير الكثير من المال لأبناء الوطن، وهذا ما عملت وتعمل عليه المملكة، لثقتها أن المواطن السعودي الكريم قادر على الإنتاج والإبداع متى ما توفرت لديه الفرصة المناسبة لذلك.
وهذا ما تراه الآن في انخراط الشباب السعودي في أنماط الإنتاج المختلفة التي لم تكن مألوفة لديه فيما مضى، وكم يكون المرء سعيداً وهو يرى الشاب السعودي في سيارته يقدم وجبات نظيفة لذيذة لزبائنه، أو ذلك الذي يبيع الخضار في سوق الخضار، وآخر يعمل في متجر صغير أو كبير، أنه تغيير كبير حقاً في المفهوم لدى الشعب السعودي.
نرى ذلك الطموح الكبير من صاحب السمو الملكي ولي العهد -حفظه الله-، في إنشاء المشروعات العملاقة، والانخراط في مجال الصناعة والتقنية لتساير العالم المتقدم، بدل التأخر من ثم اللحاق به بعد سنوات.
لقد حبى الله المملكة مورداً هاماً وهو النفط وهذه فرصة هائلة قد لا تعود لو أننا لم نسارع الخطى للاستفادة منه في تنويع مصادر الدخل، فإن فرصة أخرى قد لا تكون متاحة، لهذا فإن الصبر وتقليل الإنفاق الاستهلاكي لصالح الإنتاج أمر منطقي.
التاريخ وضع بين يدينا صورة مماثلة، سأومئ لها باختصار، فالمؤلف بيتر برنشتاين ذكر في أحد كتبه عن وضع إسبانيا في القرن السادس عشر، بعد أن تدفق الذهب إلى إسبانيا من أمريكا الجنوبية -بلاد الهنود الحمر- آنذاك، ولماذا انتهت معظم ثمار أول ثورة ذهب في التاريخ بالسقوط في أيدي الآخرين، ويذكر أن ذلك يعود لأسباب محلية، تشكل جزءاً من شخصية إسبانيا القرن السادس عشر، والسبب الآخر يعود إلى ديناميكية ذلك العصر، وبيئة المتقلبة، وهي أمور لم يكن المجتمع الإسباني بتركيبته الصارمة مؤهلاً للانخراط بها.
عندما بدأ الذهب يرد إلى إسبانيا بكميات كبيرة، أظهر الإسبان براعة في الإنفاق أكثر مما أظهره في مجال الإنتاج، فقد حركت تلك الواردات الكبيرة من الذهب والفضة مهارات الإنفاق في الوقت الذي أعاقت فيه المبادرة للإنتاج من إسبانيا، لقد تصرفت إسبانيا في ذلك الوقت -على حد قوله- كالفقير الذي أصاب مبلغاً ضخماً مفاجئاً على طاولة القمار، لكنه بدل الاعتقاد أن ما حصل هو حادث لن يتكرر، أخذ بتصور أن المال هو قدره، وبالفعل كان حادثاً لن يتكرر، ورغم غزارة شحنات الذهب إلى إسبانيا خلال العقد الأول من القرن السادس عشر، إلا أنها بلغت ذروتها منتصف العقد لتهبط بشكل حاد بعد سنة 1610م، أما شحنات الفضة فقد بلغت الذروة في بداية القرن السابع عشر لتهبط بشكل حاد في سنة 1630م.
ولن أسهب في الموضوع حتى لا يتم الخروج عن الهدف. ويجدر بنا الإشارة إلى أن التوجهات السديدة في رؤية 2030، هو الاستفادة من الإيرادات النفطية، لإيجاد بدائل مصادر أخرى للدخل، تعتمد على الموارد الأخرى المتاحة، وتهيئة الإنسان القادر على المشاركة الفعلية في عملية التنمية الإنتاجية ليكون الاستمرار في ذلك متتابعاً عبر الأجيال، وذلك بوضع قاعدة أساس لخدمة هذا الجيل والأجيال اللاحقة، وهذا يتطلب مزيداً من الصبر، وتغيراً في نمط الإنفاق الذي كان مألوفاً. وفق الله المملكة وقادتها لخير هذا الوطن وحفظهم من كل مكروه.