د.علي القرني
الذهاب إلى الشرفة هو تقنية تفكيرية، تتيح للفرد أيًّا كان شخصًا أو كاتبًا أو مسؤولاً أن ينظر إلى المشهد من الخارج، ومن مكان يرتفع علوًّا فوق عناصر الموضوع ومكوناته الميدانية. ومصطلح الذهاب إلى الشرفة go to the balcony يعني أن يتنفس الإنسان عميقًا، ويفكر من جديد، خاصة أثناء الأزمات والمشاكل التي يواجهها أشخاص، أو تواجهها مؤسسات، أو حتى دول.
المشكلة التي يعاني منها الكثير منا أننا ننغمس في التفاصيل لكل قضية أو موضوع، وهذا يفقدنا رؤية استشرافية للأمور. ووجودنا في عمق المشكلة كطرف من الأطراف يعيق وصولنا إلى حلول أو وصفات للمشكلة. وإذا أخذنا في الاعتبار مشكلة من المشاكل، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو إعلامية أو اجتماعية، أو غيرها من المشاكل، سنجد إذا نظرنا إلى المشاركين في القضية عبر أطروحاتهم أنهم منغمسون جدًّا في القضية أو الموضوع. وهذه الدرجة العالية من الانغماس - كما شاهدناها في موضوع قيادة المرأة للسيارة على سبيل المثال فقط - تؤدي إلى عمى قسري في رؤية وقائع الأمور وتفسيرها، فضلاً عن وضع الحلول لها.
وعادة، مَن لا يذهب إلى الشرفة يؤدي موقفه وتحليله وتفسيره إلى تعميق للمشكلة كثيرًا؛ ولهذا فهناك إيجابيات لهؤلاء الذين يذهبون إلى الشرفة دائمًا عند النظر في مشاكلنا وهمومنا:
1. الذهاب إلى الشرفة يعطي الفرد أو المؤسسة رؤية كاملة للمشهد العام الذي تدور فيه القضية أو موضوع النقاش؛ فهو يقع فوق المشهد الميداني؛ ويستطيع أن يرى بوضوح تفاصيل المشهد دون تأثير عليه، كما تتبيَّن له آراء الأطراف المتنازعة كافة في القضية.
2. الذهاب إلى الشرفة يعني الانسحاب التكتيكي من القضية لإعادة التفكير فيها من جديد، وفق رؤية جديدة، تراعي مختلف الآراء، وتعطي نفسًا جديدًا للموضوع. وهذا الانسحاب لا يعني الهزيمة في الموضوع، ولكنه يعني استيعاب تفاصيل جديدة، والتعمق في فهم المشكلة.
3. الذهاب إلى الشرفة ينطبق على ثلاثة أطراف للموضوع، الطرفان المعنيان بالقضية من ناحية، وكذلك الطرف المعني بوضع الحلول لتلك المشكلة. بمعني أن كل المشاركين في القضية مطلوب منهم الذهاب إلى الشرفة مؤقتًا لإعادة التفكير من جديد؛ وبالتالي استيعاب تفاصيل جديدة.
4. الذهاب إلى الشرفة يفيد مختلف الأطراف، ولكن تحديدًا القوة النافذة في المجتمع والمعنية بالموضوع أو القضية، والمعنية تحديدًا بوضع الحلول وطرح الخيارات. وعادةً هذه القوى هي قوى تنفيذية في المجتمع.
5. الذهاب إلى الشرفة يعني تبريد الموضوع من لحظته الساخنة؛ إذ إن اللحظة الساخنة في القضية تُفقد جميع الأطراف توازنهم في فهم الموضوع واستيعابه جيدًا.
6. الذهاب إلى الشرفة يعني أن أولى خطوات التفكير في الحلول قد بدأت تعمل بشكل عملي، وأن الرؤية الكاملة للقضية قد بدأت تتضح في الأفق. وهذا مؤشر إيجابي في بداية رسم الحلول وبناء القرارات.
وحتى تتضح الصورة أكثر لموضوع الذهاب إلى الشرفة دعوني أوضح أن الذهاب إلى الشرفة لا يعني الذهاب إلى الشرفة بالتعبير الحرفي، ولكنه تعبير مجازي، يعني الارتقاء فوق تفاصيل الميدان، والنظر إلى المشكلة بطريقة جديدة، وبرؤية استبصارية عميقة. وهذا المصطلح يتضح إذا فكرنا به بطريقة تجسيدية. فمثلاً لو كانت هناك مشكلة في مكان حتى على مستوى شجار شخصي أو حوادث مرورية أو غير ذلك، فإذا أنت في وسط الميدان وداخل المعركة فلن تكون بقدرة استيعاب المشهد العام مثل الشخص الموجود في شرفة أحد المنازل المطلة على الميدان.. فوجودك في الشرفة يعطيك رؤية كاملة للمشهد. وللتوضيح أكثر: فأنت عندما تكون في طائرة تحلق فوق مدينة من المدن فإن مشهد المدينة يكون واضحًا جدًّا لك؛ وتستطيع أن تنظر من زاوية جديدة، لا تتوافر للأشخاص من سكان تلك المدينة.