عبدالعزيز السماري
عندما تتحول نظرية سياسية إلى واقع، فيعني أنها أصبحت حقيقة ناصعة، وقد تكررت بالفعل خلال الثمانية عقود الماضية ظاهرة سياسية لم يمكن تجاوزها كأنها لم تكن، فقد تكررت ثلاث مرات، وأحدثت آثاراً مدمرة في المنطقة، وقد تمثل ظاهرة من ظواهر الهوس الأيدولوجي، وقد تكون الوجه السياسي للهوس النرجسي، وانشغال الزعيم بذاته وبهوس العظمة، وبنقص تقدير الآخرين له، وهو ما يدفعه إلى أن يتحول إلى خطر يهدد الذين من حوله..
سلوك دولة إيران الحالي أحد هذه النماذج الذي تكرر في الشرق، فهي تعلن الحرب على إسرائيل من خلال وسائل إعلامها، وتتلقى الضربات الإسرائيلية على مواقعها في سوريا، لكنها ترد بإشعال الفتن في جيرانها الأقربين، ونقل الفوضى إلى داخل أوطانهم، وقد نجحت في تأسيس ميليشيا عسكرية داخل لبنان، وقد تحول مع مرور الزمن إلى قوة تتحكم في بعض القوي السياسية في ذلك البلد الجميل..
كانت قريبة جداً من النجاح في اليمن من خلال نفس الفكرة، لكن عاصفة الحزم نجحت في إفساد المخطط، وما زال في الأمر بقية، وما لا تدركه بعض القوى الغربية أن نجاح الحوثيين في حكم اليمن يعني تحكم إيران في أهم المضايق في العالم..، ويعني دخول الفوضى إلى الخليج وجزيرة العرب وتهديد مصدر الطاقة في العالم..
الظاهرة الأخرى في مسألة الهوس الأيدولوجي أو الهوس النرجسي تاريخ العراق في عهد حزب البعث منذ تولي صدام حسين، فقد تحول إلى أيقونة لهذه النظرية السياسية، فقد أعلن مراراً خطته لتدمير إسرائيل وإحراقها بالصواريخ، لكنه في غفلة من الآخرين دخل الكويت وأحرقها تماماً، ولم يتوقف عن تهديد جيرانه إلى أن وضع عنقه على مقصلة الدول العظمى، وكانت نهايته مريرة جداً..
الظاهرة التي حظيت بالسبق في هذا الواقع السياسي النرجسي، كانت ظاهرة عبدالناصر في الخمسينيات، الذي أظهر هوساً أيدولوجياً بالقومية العربية، وكان يخطب، وهو في حالة من النرجسية السياسية التي قد تصل إلى حد التسمم في بعض الأحيان، وكان يهدد من خلال إعلامه برمي إسرائيل في البحر، وكانت الشعوب العربية تنتظر تلك اللحظة التاريخية، لكنها وجه قواه الأمنية والعسكرية لغزو جيرانه، وتدبير الانقلابات العسكرية فيها، وكانت أيضاً نهايته مأساوية في عام النكسة، وكان نظامه السياسي من الداخل يقوم على قاعدة القمع السياسي وتكميم الأفواه، فلا صوت يعلو فوق المعركة..
كانت دولة الاحتلال الصهيوني المنتصر الوحيد خلال هذه السيرة النرجسية في تاريخ الشرق، فقد ازدادت قوة واتسع احتلالها للأراضي العربية، وازدادت دول الشرق العربي بؤساً وتشتتاً، وقد نستثني فترة 1973، والتي أظهرت واقعية سياسية غير مسبوقة، وحققت كسباًَ سياسياًَ وعسكرياَ أيضاً لولا تدخل الدول الكبرى، وهو ما يعني أن الواقعية السياسية والالتزام باحترام المواثيق وحقوق الدول مجاورة ضرورة من أجل تحقيق الأهداف المعلنة أياً كانت..
من خلال هذا الرؤية يواجه الشعب الإيراني خطراً حقيقياً، فالغرب تعلم من تاريخ الشرق كيف يدفع الزعيم النرجسي إلى الهاوية ثم ينتظره في نهاية النفق المظلم لكي يقضي عليه، ومن ثم إعادة رسم خرائط المنطقة، فالمنطقة العربية في الشرق شئنا أم أبينا لها قيمة إستراتيجية كبرى، وتعد في الوقت الحاضر من أهم مناطق العالم تأثيراً على اقتصاد العالم، ولكن هل نفرط بهذه المكانة من خلال نزوات بعض الأنظمة، ونرجسية بعض زعمائها، وهل تعي الزعامة في قطر هذه الظاهرة الشرقية في الهوس السياسي، وتعود إلى حضنها العربي والخليجي وإلى احترام المواثيق مع جيرانها..