أقصد بالقيادي هنا، القيادة الإدارية لأي منظمة سواء كانت محلية أو دولية، فالمنظمات غالبًا ما تختار لإداراتها وقيادتها الكفاءات الفنية أو المتخصصة المتعلقة بمجال عملها، وهو تقليد إداري يحمل الكثير من المنطق والوجاهة، لكنه ليس دائمًا هو الخيار الأصوب أو الأفضل، فأحيانًا يكون غير المتخصص أكثر كفاءة وأكثر قدرة على السير بالمنظمة إلى مرافئ التميز والنجاح وتحقيق الأهداف، وحينما يتمتع القائد أو الإداري الناجح سواء كان فنيًّا متخصصًا أو خلاف ذلك بميزة الثقافة أو بتعبير أدقّ الاهتمام الثقافي، فإن خططه وأهدافه غالبًا ما تقترن بالأبعاد الإنسانية والتنموية، خاصة إذا كان مجال عمله في المنظمات التنموية أو الثقافية أو التعليمية أو الطبية. في تاريخنا الإداري يوجد نماذج لافتة من هذه النوعية، وأعني الإداريين المثقفين الذين نجحوا في ترك بصمات في المنظمات التي تسنّموا قيادتها، يأتي في مقدمتهم الرائد غازي القصيبي، والدكتور محمد الرشيد، والأستاذ إياد مدني، والدكتور زياد الدريس، وغيرهم كثير.. فالاهتمام الثقافي المتكئ على القراءة والاطلاع يمنح صاحبه أفقًا واسعًا يفتح له أبوابًا خارج نطاق التفكير الإداري التخصصي، ويضفي على خططه وأعماله وعلاقاته أبعادًا إنسانية أخّاذة.
هذه المقدمة أردتها مدخلاً للحديث عن الأستاذ سليمان بن جاسر الحربش المدير العام والرئيس التنفيذي لصندوق أوبك للتنمية (أوفيد)، وذلك بمناسبة انتهاء فترة عمله في هذه المنظمة بعد أن قضى في قيادتها خمسة عشر عامًا، والواقع أنني لا أعرف الرجل شخصيًّا، ولم ألتق به أبدًا، ومعرفتي به جاءت من بوابة الجانب الثقافي أكثر من الإداري، وأقصد أنني عرفته من خلال مقالاته التي يكتبها بين الفينة والأخرى في هذه الصحيفة وفي غيرها، فهو إنسان مثقف وطني عروبي، ومقالاته ينتظمها الهمّ التنموي للإنسان في الدول الفقيرة، والهّم القومي العربي، كما أنها تُنبئ بوضوح عن قراءات جادة في الفكر والثقافة، وتتميز بلغة سهلة، وأسلوب جزل، ومؤخرًا كتب عن زهرة المدائن (القدس) مُشيرًا إلى الجهود التي قام بها صندوق (أوفيد) لدعم الشعب الفلسطيني، وتمكينه من مقارعة إجراءات الاحتلال الصهيوني، مؤكدًا في الوقت ذاته أن: (الحفاظ على عروبة القدس ومقاومة كل محاولات طمس هويتها إنما يكون من خلال الأعمال لا الأقوال).
أما المقالة التي رسّخت اسمه في نفسي وجعلتني أقرأ كتاباته بشغف، وأتابع أعماله بولع، فهي المقالة الرثائية التي كتبها عن صديقه الراحل محمد الضلعان - رحمه الله - محافظ المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني السابق، فبحكم أنني عملت مع الضلعان في المؤسسة، واحتفظ بذكريات جميلة عن تعامله الإداري والإنساني، فقد لامست تلك المقالة مشاعري، وأظنها عبّرت عن جانب من مشاعر مُحبّي وأصدقاء أبو سليمان الضلعان، وحملت فيضًا من الوفاء والشجن والحزن، وأبرزت خصلة من خصال أبو سليمان وهي الوفاء والدفء الإنساني من خلال استعادة قصة جدّه (ابن ريس) بأجوائها المشحونة بالوفاء والصداقة والمرض والحزن والانتظار.
أما الجانب الإداري للأستاذ سليمان الحربش فإنه يتجلى بوضوح في التجديد له برئاسة الصندوق مرتين عن طريق التزكية وليس الانتخاب، ويمكن من خلال الاطلاع على المكتوب بالمواقع الرسمية في الإنترنت عن الصندوق (أوفيد)، القول دون تردد أن الحربش نجح في الانتقال بأعمال الصندوق إلى مستويات متقدمة في العمل التنموي في مجال الطاقة، وأطلق خلال رئاسته العديد من البرامج والمبادرات الرامية إلى القضاء على الفقر في الطاقة خاصة في دول أفريقيا، إضافة إلى برنامج منح خاص لدعم الشعب الفلسطيني، وإنشاء «جائزة أوفيد « السنوية للتنمية، كما أنه نجح في هيكلة وتنظيم أعمال الصندوق وتعزيز حضوره في المحافل الدولية الإنمائية.
وأخيرًا وفي نهاية هذه الخاطرة - التي أوحى لي بها مقال د.جاسر الحربش المنشور في هذه الصحيفة قبل أيام عن انتهاء فترة رئاسة الأستاذ سليمان للصندوق - أرجو أن يستعجل الأستاذ سليمان الحربش في تدوين سيرته العملية، فهي ليست سيرة ذاتية له فحسب، وإنما هي توثيق لجوانب من تاريخ الطاقة النفطية في المملكة بكل ما صاحبها من تحديات وعقبات ونجاحات وإخفاقات، إضافة إلى أنها تسجيل لقصة تأسيس صندوق (أوفيد) وأعماله وجهوده التي تجاوزت العمل الإنمائي في مجال الطاقة إلى الجوانب الثقافية وفي مقدمتها دعم فلسطين وأبنائها ومشروعاتها الثقافية والإنسانية، كما أنني أنتهز هذه المساحة لتذكير المسؤولين في وزارة الطاقة والثروة المعدنية للاستعجال في تكريم الأستاذ سليمان الحربش والاحتفاء بإنجازاته وأعماله في الصندوق التي هي إنجازات باسم المملكة، كما أرجو من القطاعات الثقافية أيضًا تكريمه لجهة جهوده وإنجازاته في تبني المبادرات المتعلقة بدعم فلسطين وأهلها.
** **
- عبدالله المحيميد