د. حسن بن فهد الهويمل
لست أدري من الذي جرَّ قلمي إلى وحل السياسة, وسمومها اللافحة, وجعلني أتذكر محاورة (المُتَنَبِّي) لِحِصَانه:
(يَقُولُ بِشِعْبِ بوَّانٍ حِصَانِي
أعَنْ هَذَا يُسَارُ إلى الطِّعانِ)
لقد كنت تحت دوحة الأدب, والأدباء الوارفة الظلال, مثلما كان (المتنبي) وحصانه في (شِعْبِ بَوَّان). وفجأة وجدتني في أتون السياسة, وتقلباتها المذهلة.
ومثلما كان (ابن تيمية) عالمَ فقهٍ, وعقيدةٍ, فجعلت منه (الحملات الصليبية), و(حروب التتار) خطيباً, حربياً, مفوهاً. يحرض المؤمنين على القتال. جعلت مني مغامرات السياسة, ومقترفاتها كاتباً يجالد في سوحها.
من المسلّمات أن القارئ النَّهِم: إما صانعٌ لِفِكْرِ غيره, أو هو مَصْنوعُ الفكرِ من غيره. فمنا من تصنعه مقاعد الدراسة, ومنا من تصنعه تجارب الحياة. ومنا من يصنعه مقروؤه الحر, ومكتبته التي شكلها على عينه. وآخرون تتنازعهم المُشَكِّلات.
الأخطر من ذلك كله اختطاف أحدنا من مساره الذي ارتضاه لنفسه, وحَمْلِه على نَسْفِ مسلماته, وانصياعه لدعاة السوء على أبواب الفتن.
ومثلما تُخْتَطف الأفكار, يُخْتَطفُ الأناسي. حتى (الإسلام) لم يسلم من الاختطاف.
وكم من مُصْلِحٍ جاهد, وجالد لاستعادته, وتجديده, ولو لم يتكرر اختطافه, لكان الناس أمة واحدة.
وَقَلَّ أن يكون الاختطافُ حميداً. وحين يتعرض (الإسلام) للاختطاف, يكون شاملاً, أو جزئياً. مرحلياً, أو دائماً. تعاطفياً, أو اعتقادياً. مباركة, أو عملاً متفانيا.
ومشاكلُ الفكر, والسياسة بحرٌ لجي, لا نهاية لعمقه, ولا تقارب بين شطآنه.
وحَمَلةُ الكلمة كـ(المتنبي), و(كافور):
(أَبَا الْمِسْكِ: هَلْ فِي الكَأْسِ فَضْلٌ أَنَالُهُ؟
فَإِنِّي أُغَنِّي مُنْذُ حِينٍ, وَتَشْرَبُ)
الراصد للحراك الفكري, والسياسي يصاب بالذهول, فهو أمام تحولات سريعة مفاجئة. وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم حين وصف الفتن بقطع الليل المظلم. بحيث: (يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً, ويُمْسِي كافراً, أو يُمْسِي مُؤْمِناً, ويُصْبِحُ كافراً, يَبِيعُ دِيْنَهُ بَعَرَضٍ مِنَ الدَّنُيا).
فالتحولات المفاجئة, من أشراط الساعة: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا).
وحين أجد نفسي في أتون السياسة, تتبدى لي جهالات, لا يحتملها عقل, ولا يكاد يسيغها فكر. ومع ذلك تظل سيدة المواقف, وكأنها القول الفصل, وفصل الخطاب. لا لشيء إلا لأن اللعب السياسية المتحكمة تريد ذلك. ولا تتيح فرصة للتفكير السليم, والقول الحر.
الدولة - أيُّ دولة - حين تكون مع الحق, والصدق, والعدل. تكون غريبة الوجه, واليد, واللسان.
ومهما امتَلَكْ (الكاتب الحر) من الحكمة, والصدق, والعدل فإنه يغرِّد خارج السرب: (وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ). وللسياسة قبورٌ مَرْمُوسٌ فيها الأحياء.
هذه السياسة الظالم أهلها استحوذت على بعض حَمَلَةِ الأقلام, وكشفت عن عوار المضلين منهم, الذين يتبعون الشهوات, ولا يصدقون إلا قليلا.
ومتى كانت المقدمات خاطئة, فإن المسيرة ستظل مُعْوَجَّةً, والنهاية مؤسفة.
في هذه الأتون, تتراءى لي مشكلة (العراق) العصية على كل قراءة. (العراق) مهما كانت أوضاعه. هو عزيزٌ علينا: أرضاً, وإنسانا. وهو في النهاية مصدر الفتن ما ظهر منها, وما بطن. منذ أن كان, وحتى يرث الله الأرض, ومن عليها.
وليس أدل على ذلك من تمني العراقيين بمختلف طوائفهم, وأجناسهم, ودياناتهم عودة (صدام حسين) الذي أذاقهم لباس الجوع, والخوف, قتَّل أبناءهم, وأذل نساءهم. وزج المنطقة كلها في فتنة عمياء, لما تزل آثارها قائمة.
الفخ الإعلامي الموجه, يمارسه (المجوس) المتنفذون, والمنفذون لأقذر اللعب. وأمانيهم تشكيل وعي الأمة على مرادهم الطائفي, التوسعي.
وكل ما يُقال من كل الأطراف كذبٌ صراح. فالمستبد, والمنفذ يفترضان أحداثاً, ومشاكل ليست قائمة. كدعوى (الإرهاب الإسلامي).
فرض على الشعب العراقي الانقسام على نفسه. و(المجوس) يستغلون هذا الانقسام, ليحققوا طموحاتهم المستحيلة.
إنهم يحلمون باستعادة (العراق), كولاية شيعية, تأتمر بأمرهم, وتنفذ تطلعاتهم. وهذا من المستحيلات.
مشكلة (العراق) في الوجود (الإيراني), والحكم الطائفي, الذي لا يضمن وجودَه إلا الحبلُ المجوسي, المُبَارَكُ من (الغرب).
(العراق) دولة عربية, إسلامية, لها سيادتها. ومن حق شعبها أن يُقِرَّ ما يشاء, ويختار من يشاء, ويدير شؤونه بنفسه. لا يقبل الإملاءات, ولا التوجيهات, ولا التدخلات.
نعم مكوناته السكانية مختلفة, ولكنها قابلة للتعايش, والتصالح, والتعاذر متى خرج من أرضه (المجوس) الذين عاثوا فيه فساداً, وأذاقوا أهله من السنة, والشيعة أشد العذاب. فهم حاقدون على (العنصر العربي), وأحلامهم الطائشة تَعِدُهم, وتمنيهم بعودة (إمبراطوريتهم), و(صفويتهم).
لقد بذلوا الأموال, والأفعال, والأقوال, وأضاعوا شعبهم, وأذاقوه الذل, والهوان, والخوف. وما زالوا في مربعهم الأول.
ولما تزل الأوهام تحشوا أدمغتهم, والأحلام تدفع بهم في أتون الفتن, والإعلام المسيطر المجند يوهم الدهماء بأن العصابات الإرهابية هي التي تدير دفة الحوادث في العراق.
لن يهدأ (العراق) وعلى أرضه مجوسي فارسي واحد. فهل يتداركون أنْفُسهم, أو يتفانون؟
مشكلة الأمة العربية في التدخلات (الغربية), المتقنعة وراء الطائفيات, والأقليات. ومن ظن غير ذلك ضاع, وأضاع. لا أمن, ولا استقرار في ظل الحكم الأجنبي, والاستبداد الطائفي, وتسلط الأقليات.
من جاء من غير العراقيين, ليفرض عليهم شيئاً من ذلك فهو (إرهابي) متقنع بِمُسَمِّيات موهمة.
الأمة العربية قاومت الاستعمار منذ (حملة نابليون), وقاومت الظلم, والإهمال منذ (الخلافة العثمانية). وإشكاليتها في التدخلات الإقليمية, والخارجية.
والخطابات القائمة, والمتداولة مصنوعة على عين المستبد, ولم تكن بإرادة عربية.
ولو أن الدول الكبرى تخلّت عن (إيران) لتعود إلى حدودها, لاستقام أمر الأمة, وصلح شأنها. ولكنها السياسة المتبرجة, المائلة, المميلة, التي اختطفت الأفكار, والأناسي, واستنزفت الجهد, والمال, والوقت:
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ}.
لقد حق وعده, فخلطهم في الفتنة ليقتتلوا.