د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
يطرح هذا المقال مقترحًا يتعلق بتسريع إجراءات التقاضي في القضايا الصغيرة الواضحة التي تشغل وقتًا كثيرًا من محاكمنا وهي فعليًا لا تتطلب النظر من قبل قاض مختص. وكثير منها يكون طلب الشرع فيها إما للممطالة أو لإنهاك الخصم. وقد كانت هذه القضايا تحل في السابق بواسطة تدخل العمد أو شيوخ المهنة أو بعض أقسام الشرطة. ولكن وبعد إتاحة التقاضي للجميع، ونتيجة للطفرة التجارية والعمرانية التي مرت بها بلادنا ودخول أعداد كبيرة من الوافدين لسوق العمل لدينا تحول طلب القضاء إلى وسيلة للتلاعب بحقوق الناس.
العدالة مستويات من حيث التعقيد مثلما المخالفات والجرائم مستويات من حيث الجسامة ومن حيث صراحتها في إنكار الحقوق أو خرق الأنظمة والقوانين، وهذا يجب أن يحدد مستوى الجهات التي تنظر فيها. كما أن وجود قضايا كبيرة وخطيرة لا يعفي من ضرورة تحقيق العدالة في القضايا الصغيرة والهامشية. وأحيانًا تسمع عبارة: حاول تحل موضوعك وأصلح مع غريمك فنحن مشغولون بقضايا أكبر. وقد تنازل كثير من المواطنين عن حقوقهم أو أهملوها لأنها صغيرة وإجراءات المطالبة بها طويلة، وعند إقرار الحق قد لا يحصل المواطن على أية تعويض عن الجهد والوقت والمال الذي صرفه للمطالبة بحقه. وللأسف فكثير من هذه الحقوق مرتهنة لدى وافدين يعتقدون أنهم أذكى من السعوديين في فهم إجراءات العدالة ويعرفون أن المواطنين يصابون باليأس سريعًا للحصول على حقوقهم فيتركوها. وإلى عهد قريب كان القضاء يوقف بناء مسكن المواطن حتى تحل قضيته مع المقاول الوافد، ويطلب القضاء تدخل جهات استشارية محايدة يدفع لها مبدئيًا المتظلم، ولا يعوض المواطن عن تأخر سكنه بسبب القضية.
عملت دولتنا حفظها الله الكثير لتطوير القضاء، وآثار ذلك واضحة اليوم في سرعة التقاضي أمام المحاكم المستعجلة والمحاكم الأخرى، مع أن هذه السرعة نسبية وتقاس عادة بمدى سرعة التقاضي قبل إجراءات الإصلاح. ومعلوم، كما سبق وذكرت، أن كثيرًا من القضايا لا تحتاج محاكم ويمكن أن تحل خارجها. وفي حال عدم قبول أحد الأطراف بقرارات أقسام الشرطة مثلاً يحال للقضاء، ولكن عند اتضاح أن الطرف الرافض يريد المماطلة فقط بطلب القضاء الشرعي في محكمة، ويذهب للقضاء وتثبت عدالة حكم الجهات السابقة، فإن هذا الطرف يجب أن يتعرض للمساءلة وتلحقه تهم أخرى منها: المماطلة في الحق لإشغال القضاء بلا مبرر، غرامات إضافية مالية تشمل التعويض عن وقت الطرف الآخر، والتعويض عن تأخر حقه، وكلفة التقاضي أمام المحكمة. بدون ذلك لا يمكن فرض احترام القضاء واحترام وقت المحاكم والقضاة.
وقد زاملت في أيام الدراسة أفرادًا من شرطة الإمارات العربية المتحدة ابتعثوا لعامين فقط لدورات في القضاء في بريطانيا، وعندما سألت أحدهم عن سبب ابتعاثهم، أجاب بأن الدولة تريد حل المشاكل القضائية الصغيرة في أقسام الشرطة دون إحالتها للقضاء لتتفرغ المحاكم للقضايا الجسيمة والمعقدة. وقد عاد هؤلاء المبتعثون لبلادهم ومارسوا مهامهم على أكبر وجه، وثبتت الجدوى من ابتعاثهم.
ولدينا في أقسام الشرطة ما تدعى بدوائر الحقوق المدنية، وهي تستدعي المدعى عليه وتحاول التسوية بين المتخاصمين بالتراضي، وفي حال رفض أحد الطرفين التسوية يحال للقضاء. وفي بعض الأحيان ينجح هذا الأسلوب في حل القضايا. ولكن لفترة خلت، كان فيها التقاضي يستغرق وقتًا طويلاً وإجراءات عديدة، كان بعض المتلاعبين يطلب القضاء عمدًا دون وجه حق، والهدف هو المماطلة، وإتعاب الخصم، وإدخال اليأس في نفسه بطلب القضاء أمام المحكمة ورفض تسوية الحقوق المدنية التي لا تملك إلا إحالته للقضاء.
تحقيق العدالة مكلف على الدولة وعلى المواطن، ويكون أكثر كلفة عندما يتطلب الأمر إشغال القضاة والمحاكم بلا سبب غير التحايل على حقوق الآخرين. ولذا فيجدر بنا الاستفادة من تجارب الإمارات العربية المتحدة وغيرها في إنجاز العدالة بزيادة صلاحيات الحقوق المدنية في أقسام الشرطة لتصبح سلطة قضائية وتنفيذية في القضايا الصغيرة والواضحة، وألا يحال للمحاكم إلا المعقد منها والجسيم الذي يحتاج للفصل لدى قاض مختص، فيتم إغلاق باب التحايل كليا.
ولدينا وللحمد أعداد كبيرة من خريجي كليات الأنظمة والشريعة، كثير منهم ينتظرون وظائف، ولو تمت إعادة تأهيلهم بدورات متخصصة قصيرة، وتوزيعهم على أقسام الشرطة للفصل في القضايا المستعجلة بحيث يكون حكمهم ناجز ونافذ. ويترك الأمر للطرف المعترض على الحكم، وليس صاحب الحق، أن يستأنف لدى المحكمة المستعجلة، بحيث يكون هو الطرف الذي يلاحق قضيته في المحاكم. وعندما تصادق المحكمة على حكم قاضي الحقوق المدنية يقدّر القاضي عقوبة معينة للمماطلة وتعطيل العدالة.