قد تستوقفني بعض الأبيات الدارجة على الألسن، والتي يكون فيها خلل شعري، ثم قد أجد لها أصلاً صحيحاً، وقد لا أجد، ومن ذلك بيتان كنت أسمعهما من بعض المشايخ وطلبة العلم - ودوَّنها بعضهم في مؤلفاته - في حثهم على حفظ العلم بالكتابة، وتشبيه ذلك بغزالة صادها إنسان، بعد تعب ومشقة، ثم تركها دون قيد، فهربت منه، وأجد في أحدهما خللاً عروضياً، وهما قول الشاعر:
العلمُ صيدٌ والكِتَابةُ قيدُهُ
قيِّد صيودَكَ بالحبالِ الواثِقَهْ
فمِنْ الحَمَاقَةِ أنْ تصيدَ غزالةً
وَتَتْرُكَهَا بينَ الخَلائقِ طَالقَهْ
فالبيتان من بحر (الكامل) عدا الشطر الأخير من البيت الثاني فهو من بحر (الطويل)، وكنت درست هذين البيتين في الصف الثاني الثانوي في المعهد العلمي في الرياض في آخر مادة مصطلح الحديث، والذي ألفه الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله -، وقد طبع ضمن مؤلفاته، وأتعجب كيف يورد -رحمه الله- مثل هذا الشعر، وفيه خلل عروضي، مع أنه عالم ينظم الشعر ويحكم عليه، ومما أكد لي الخلل فيهما أستاذنا في المعهد العلمي الأستاذ : أحمد بن أحمد السجاعي - عفا الله عنه - حيث ما زلت أذكر - وأظن ذلك كان عام 1408هـ - أن أستاذنا الكريم اتكأ على إحدى عضادتي باب الفصل، وبدأ يقطع هذين البيتين في دفتر ما زال عندي إلى الآن، ثم قال لي: صحيح، البيت الثاني فيه خلل عروضي في كلمة (وتتركها)، وبدأت أنا وإياه نختار الكلمة المناسبة للمعنى والوزن، وأظنه اقترح عليَّ استبدالها بكلة (وتسيبها)، لكنه قال: لكن لا يحق لنا أن نغيِّر كلام الشاعر، فابحث عمن قال هذين البيتين، وستجدهما حفظا على غير ما قالهما.
وما زال هذان البيتان محل بحثي - منذ ذلك الوقت - حتى وقفت عليهما بوزن مستقيم، وذلك عام (1424هـ) بعد أن طبع كتاب: (أنس المسجون وراحة المحزون) لصفي الدين عيسى بن البحتري الحلبي المتوفى في القرن السابع الهجري، حيث وردا في ص 33-34، بنص:
العلمُ صيدٌ والكِتَابةُ قيدُهُ
قيِّد صيودَكَ بالحبالِ الواثِقَهْ
فمِنْ الحَمَاقَةِ أنْ تصيدَ غزالةً
وتَركْتَها مثلَ الحَليلَةِ طالِقَهْ
غير أن محقق الكتاب كتب حاشية على هذين البيتين بنص: (هذان البيتان كتبا على الهامش، وبخط مغاير عن خط ناسخ الأصل).
ولا أظن أن ذلك يضر بمقصودنا هنا، وهو التحقق من صحة البيت الثاني، إذ النسخة الخطية التي اعتمدها المحقق كتبت في السادس والعشرين من ربيع الأول سنة 889هـ، والكتابة على هامشها ستكون قريبة من ذلك التاريخ.
وبكلمة (وتركتها) يستقيم الوزن، وإن في المعنى ثقل.
ثم وجدت أبا علي، الحسين بن علي بن طلحة الرجراجي ثم الشوشاوي السِّمْلالي المتوفى سنة 899هـ ذكر البيتين في كتابه (الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة) ونسبهما لسحنون، حيث قال (211- 212): وأما كلام العلماء، فمنه ما أنشده سحنون:
العلمُ صيدٌ والكِتَابةُ قيدُهُ
قيِّد صيودَكَ بالحبالِ المُوثَقَهْ
فَمِنَ الجَهَالَةِ أنْ تَصِيدَ حَمَامَةً
َتَدَعَهَا مَعَ الأَوانِسِ مُطْلَقَهْ
فذكرها الرجراجي هنا بتغير كلمة في بداية الشطر الأخير من البيت الثاني (وتدعها) ولكن لا يزال الوزن غير مستقيم، إضافة إلى أنه جعل البيتين مما أنشده سحنون - رحمه الله.
ثم وجدت يحيى بن محمد بن محمد الحطاب المكي، المتوفى سنة 993هـ، ذكرهما في مقدمة جمعه لحاشية والده على الرسالة، حيث قال (18-19): جعلت ذلك تذكرة لنفسي، ولمن لاق بخاطره من أبناء جنسي، متمثلاً في ذلك كلام سحنون - رحمه الله - حيث قال:
العلمُ صيدٌ والكِتَابةُ قيدُهُ
قيِّد صيودَكَ بالقُيُودِ المُوثَقَهْ
فَمِنَ الجَهَالَةِ أنْ تَصِيدَ حَمَامَةً
وَتَتْرُكَهَا بينَ الأَوانِسِ مُطْلَقَهْ
فذكرها الحطَّاب هنا بنفس الخلل الموجود في الشطر الأخير، حتى وإن تغيرت بعض الكلمات، لكنها لا يستقيم معها الوزن.
ثم وجدت أبا المواهب الحسن بن مسعود اليوسي المتوفى سنة 1102هـ ذكر البيت الأول فقط بتغيير في بعض ألفاظه مع استقامة لوزنه، في كتابه (القانون في أحكام العلم وأحكام العالم وأحكام المتعلم) (435) دون أن ينسبه لأحد فقال: كما قيل:
العلمُ صيدٌ والكِتَابةُ قيدُهُ
قيِّدْ مَصِيدَكَ بِالحِبَالِ المُوثَقَه
ثم وجدت محمد بن مسعود الطرنباطي الفاسي المتوفى سنة 1214هـ ذكرهما - بنفس الخلل السابق - في كتابه (بلوغ أقصى المرام في شرف العلم وما يتعلق به من الأحكام) حيث قال (451):
وقال الشاعر، وينسب لسحنون:
العلمُ صيدٌ والكِتَابةُ قيدُهُ
قيِّد صيودَكَ بالحبالِ المُوثَقَهْ
فَمِنَ الحَمَاقَة أنْ تَصِيدَ حَمَامَةً
فَتترُكَها بَيْنَ الأوانِسِ مُطلَقَهْ
ثم وجدت أبا العباس أحمد بن عجيبة الحسنى المغربي المتوفى فى عام 1224هـ ذكرهما في تفسيره (البحر المديد في تفسير القرآن المجيد)، حيث قال عند كلامه على آيتي الدَّين في آخر سورة البقرة وأهمية كتابة الدَّين بين المتداينين قال: وفي هذا المعنى قيل:
العلمُ صيدٌ والكتابةُ قَيْدُه
قَيِّدْ صُيودَك بالحِبَالِ المُوثِقَهْ
وَمِنَ الجَهَالة أن تصِيدَ حمامةً
وتتركُها بَيْنَ الأوانِسِ مُطْلَقَهْ
والكلام عليه هنا هو نفس كلامنا السابق على ما قاله الحطاب.
ثم وجدت هذين البيتين منسوبين إلى الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- في أحد كتب الفقهاء الشافعية المتأخرين، وهو كتاب (إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين لشرح قرة العين بمهمات الدين) لأبي بكر (المشهور بالبكري) بن محمد شطا الدمياطي (المتوفى: بعد 1302هـ)، حيث قال فيه (4/5-6) عند تعريفه للطلاق بأنه في اللغة: حل القيد، ومنه ناقة طالقة، قال: ومنه أيضًا ما في قول الإمام مالك:
العلمُ صيدٌ والكِتَابةُ قيدُهُ
قيِّد صيودَكَ بالحبالِ الواثِقَهْ
فمِنْ الحَمَاقَةِ أنْ تصيدَ غزالةً
وَتَفُكَّهَا بينَ الخَلائقِ طَالقَهْ
فذكر الشطر الأخير محل البحث مستقيماً وزناً ومعناً، حيث ذكر كلمة (وتَفُكَّها) بدلاً عن (وتتركها).
وأما نسبة البيتين للإمام مالك أو لسحنون - رحمهما الله - فالراجح عندي: أنه لا تصح نسبة هذه الأبيات لهما، إذ لم أجد أحداً ممن ترجم لهما ذكر أنهما يقولان الشعر، أو أنهما نظما أبياتاً، ولذلك ذكرت بعض المصادر -كما سبق- أنه أنشده وفرق بين الإنشاد، وبين أن يكون هو ناظمه ابتداء، وكثيراً ما يتمثّل العالم ببعض الأبيات، ولا يعني ذلك أنها من إنشائه.
ثم وجدت أحمد بن المأمون البلغيثي العلويّ الحسني المتوفى سنة 1348هـ ذكر كلاماً نفيساً ومهماً، حول هذين البيتين في كتابه (الابتهاج بنور السراج في شرح سراج طلاب العلوم) (2-52) حيث قال: وفي الحديث: «قيِّدوا العلم بالكتابة « ذكر هذين الحديثين الشيخ علي الأجهوري في حاشية الرسالة،... إلى أن قال: وعقده (يعني الحديث السابق) سحنون بقوله:
العلمُ صيدٌ والكتابةُ قَيْدُه
قَيِّدْ صُيودَك بالحِبَالِ المُوثِقَهْ
وَمِنَ الحَمَاقَةِ أن تصِيدَ حمامةً
وَتَتْرُكَها بَيْنَ الأوانِسِ مُطْلَقَهْ
هكذا ذكر البيتين الحطاب في حواشيه على الرسالة، ونسبهما لسحنون، وكذا رويتهما عن جماعة من الأشياخ والأدباء، وكذلك وجدتهما بخطوط قديمة جداً، ولا يخفى أن الشطر الأخير غير متزن، وكل من رويتهما عنه يذكر أنه سمعه كذلك، وقد جرت محاورة فيه بين أدباء الوقت مع اتفاقهم على أنه مروي كذلك، فلهذا لم أصلحه.انتهى كلام البلغيثي.
وهو - كما أسلفت - كلام جيد متين، يدل على أن البيتين رويا بالخلل الموجود في الشطر الأخير، ولكن لمحافظة العلماء على الرواية تُرك البيتان كما هما، دون إصلاح، فما أحرص أهل العلم وشدة تثبتهم.
ووجدت من المعاصرين من نسبه إلى عبدالله بن المبارك -رحمه الله- وكذلك وجدتهما في المطبوع من ديوان الإمام الشافعي -رحمه الله- ولا أظن النسبة صحيحة، فما أكثر ما ينسب لهما من الأبيات السائرة على الألسن.
الخلاصة:
وبعد هذا التتبع لهذين البيتين في كتب المتقدمين نخلص إلى ما يلي:
الأول: أن هذين البيتين من الأبيات السائرة على الألسن ولا يُعرف من قالهما ابتداءً، ولم يثبت نسبتهما لأحد، نسبة صحيحة.
الثاني: أن أصح ما وجدته في رواية الشطر الأخير من البيتين وزناً، ما ورد في هامش مخطوط كتاب (أنس المسجون وراحة المحزون):
فمِنْ الحَمَاقَةِ أنْ تصيدَ غزالةً
وتَركْتَها مثلَ الحَليلَةِ طالِقَهْ
وأصحها وزناً ومعنى ما ورد عند البكري في كتابه (إعانة الطالبين):
فمِنْ الحَمَاقَةِ أنْ تصيدَ غزالةً
وَتَفُكَّهَا بينَ الخَلائقِ طَالقَهْ
الثالث: أن الخلل في الشطر الثاني من البيت الثاني ليس حديثاً، فهو مما تناقله العلماء، وأقدم من وجدناه ذكره علماء القرن التاسع الهجري.
الرابع: دقة العلماء رحمهم الله، -ومنهم الشيخ محمد بن عثيمين- وحرصهم على نقل الرواية كما سمعوها، وعدم الاجتهاد في تغيير ما سمعوه.
والحمد لله رب العالمين.
** **
- د. عبدالرحمن بن علي بن محمد العسكر