السّجن مكان عزلة وتقفر وانقطاع عن الحياة الاجتماعيّة واختلاء بهواجس النّفس حيث لا مفر من السّجن المادي بخواء جدرانه وقسوة قضبانه إلا إلى السجن الداخلي حيث المخاوف والآمال والأحلام وأشباح الأحباب والأصدقاء؛ التي تطلقها الوحدة ويبددها حضور السجّان، في هذه البيئة الانعزاليّة قد تُولد أعمال إبداعيّة خالدة، فلو استعرضنا تاريخ أبرز المبدعيّن لَوجدنا أنَّ السجن كان إحدى محطاتهم؛ التي كانت عند البعض مرحلة عابرة وعند آخرين مرحلة فصلٍ في نضجهم الإبداعي، ومن أبرزهم (المتنبيّ، ابن سينا، ابن تيمية، ابن حزم، ابن زيدون، الماغوط، أدونيس، سميح قاسم، محمود درويش وغيرهم من المبدعيّن) وبعد هذا هل السّجون تساهم في تعزيز الإبداع؟ هل تخلق السجون المَلكة الإبداعيّة أم تنميها؟ هل يختلف إنتاج المبدع الذي مرَّ بقسوة السّجن عن المبدع الّذي لم يَخُض هذه التجربة؟ يقول مالكوم إكس الذي غيّر السّجن مجرى حياته « أنا لا أقول إن السّجون يجب أن تُغلق، أنا أقول يجب أن تكون بلا قضبان، إن رجلًا يوضع داخل القضبان لا يمكن يصلح أو ينسى، لأنه لا يستطيع أن يتغلب على ذكرى القضبان أبدًا، مهما حاول أن يمحوها من ذاكرته» لن يكون حديثي في هذا المقال عن أدب السّجون إنّما عن المبدعيّن من الشّعراءِ الذين تأثروا بتجربةِ السّجن، وأثر هذه التجربة في إبداعهم.
يجد الشاعر نفسه داخل ذلك الثقب الصغير بين ثلاثة جدرانٍ صماء وباب حديدي ينهك روحه وصمت مدعق وشعور بالانسحاق والتلاشي؛ حيث لا خيار أمامه سوى التكيف داخل هذا الثقب الضيق فانطلقت حناجر الشّعراء وقلوبهم وقرائحهم بأعذب الأشعار وأجملها وأرقها.
هذا النّوع من الخطابات عُرف منذُ زمنٍ بعيد، يقول الأديب رئيف خوري إن أول شاعر عربيّ كَتب قصيدة داخل السّجن هو عدي بن زيد من أهل الحيرة حبسه النعمان ثمَّ قتله قتلة شنيعة ولكنه سجل مأساته قبل وفاته حيث قال:
ألا من مبلغ النّعمان عني
وقد تهوى النّصيحة بالمغيب
أحظي كان مُشكلة وقيدا
وغلا والبيان لدى الخطيب
أتاك بأنني قد طال حبسي
ولم تسأم بمسجون حريب
وبيتي مقفر الأرجاء فيه
أرامل قد هلكن من النحيب
فإن أظلم فقد عاقبتموني
وإن أُظلم فذلك من نصيبي
عندما نتحدث عن إبداعات الشعراء داخل السجن يبرز من العصر الوسيط الشاعر الفارس أبو فراس الحمداني وقصيدته التي ما زلنا نكررها حتى يومنا هذا، تحدث أبو فراس عن الألم والشوق والحبّ والشجاعة.
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهيُّ عليك ولا أمرُ
بلى أنا مشتاقُ وعندي لوعةُ
ولكنَّ مثلي لا يذاعُ له سرُّ
إذا الليل أضواني بسطتُ يد الهوى
وأذللت دمعًا من خلائقه الكبرُ
تكاد تضيءُ النار بين جوانحي
إذا هي أذكتها الصّبابة والفكرُ
إذا انتقلنا إلى العصر الحديث لا نجد اختلافًا فالسجن هو السجن والألم والمعاناة واحدة. سنتوقف في رحلتنا هذه عند ثلاثة من الشّعراء الَّذين تأثروا بتجربة السّجن ويغلب على قصائد هؤلاء الشّعراء الحنين والحزن والشّعور بالغربة نبدأ بالشاعر الحزين الَّذي استنطق الحزن: بدر شاكر السيّاب عاش السياب جميع الأحزان اليتم ثم السجن والمطاردة والمحاكمة ثم التشرد والفقر والمرض، سُجن السيّاب وحُرم من مصدر رزقه هرب من العراق إلى الكويت وكتب العديد من القصائد منها المومس العمياء، وغريب الخليج وأنشودة المطر وأسلحة الأطفال وغيرها، امتازت قصائد السيّاب بالألم والحزن والحنين للأهل والوطن، ومنها:
تحت الشّموس الأجنبية
متخافق الأطمار، أبسط بالسؤال يدا ندية
صفراء من ذل وحمى: ذل شحاذ غريب
بين العيون الأجنبية
بين احتقار، وانتهار، وازورار.. أو (خطيّة)
والموت أهون من خطيّة
من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبية
قطرات ماء معدنية
فلتطفي، يا أنت، يا قطرات، يا دم، يا.... نقود
يا ريح، يا إبرًا تخيط لي الشّراع، متى أعود
لي العراق؟ متى أعود؟
ومن الشعراء الَّذين تأثروا بتجربة السّجن الشاعر الضرير الّذي حُمل بعنف إلى السّجن ولم يشفع له مرضه وفقدان بصره من القيد يصرخ شاعر اليمن عبدالله البردوني من أعماق السجن قائلًا:
هدني السجن وأدمى القيد ساقي
فتعاييت بجرحي ووثاقي
وأضعت الخطو في شوك الدجى
والعمى والقيد والجرح رفاقي
في سبيل الفجر ما لا قيت في
رحلة التيه وما سوف ألاقي
سوف يفنى كلّ قيد وقوى
كل سفاح وعطر الجرح باقي
شاعر العرب الأكبر أو متنبيّ العصر الحديث محمّد مهدي الجواهري الذي قال عنه طه حسين « إنه البقيّة الباقية من التراث الأدبيّ العربيّ الصحيح» سُجن الجواهري وأُجبر على ترك الوطن؛ بحثًا عن الأمن خارج الحدود، عاش نصف عمره منفيًا خارج وطنه وكان لذلك بالغ الأثر في شعره. الجواهري مسكون بحب الوطن سواء أكان مقيمًا في ربوعه أم مشردًا نازحًا عنه. من قصيدة سجن يقول الجواهري:
سبح بأنعُمهم فأنت
بفضل ما أولوك جاني
صكَ الحديد على يديك
جزاء ما جنت اليدان
يا عابثًا بسلامة الوطن
العزيز، وبالأمان
عاش الجواهري غريبًا ومات غريبًا صحب الغربة في جميع مراحل حياته بدءً من الغربة داخل الوطن في سجنه وثمَّ غربته خارج الوطن. يشكو الجواهري لوعة الغربة بحرقة؛ شوقًا إلى وطنه:
يا نازح الدار ناغِ العود ثانية
وجسّ أوتاره بالرفق واللين
لعلَّ نجوى تداوي حرَّ أفئدة
فيها الحزازات تَغلي كالبراكين
ويا صدى ذكرياتٍ يستثرن دمي
بهزة جمّة الألوان تعروني
أشكو المرارة من أعنات جامحة
منها إلى سمحة برٍّ فتُشكينني
وأخيرًا لا يمكن للسجون أنّ تخلق المَلكة الإبداعيّة من العدم، فالسجن بخوائه ربّما يساعد البعض على تنمية الإبداع ويقتٌله عند البعض، كتابات السّجن على اختلافاتها تتفق في البوح والتوثيق والتّعبير عن التجربة الذاتيّة، والحديث عن الحرية؛ حيث لم يصف الحرية ويكتب عنها أفضل ممّا كتبَ السّجناء.
رحمة القرشيّ: باحثة ماجستير جامعة الأميرة نورة قسم البلاغة والأدب.
** **
- رحمة القرشي