علي الخزيم
أتأمل بإعجاب هذه العبارة البليغة ولقائلها لا سيما إذا قرأتها وأنا أتصور مجتمع جزيرة العرب قبل أكثر من 14 قرناً وتحديداً منطقة الحجاز ومكة المكرمة، حيث بُعث خاتم الرسل وخير بني آدم؛ إذ إنه هو عليه الصلاة والسلام المقصود بها هذه المرة، وقائلها العلم العربي والقامة الكبرى عند قومه ومجتمعه زعيم قريش قبل إسلامه، وكذلك بعد أن أسلم ألا وهو أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية.. هي عبارة أو مثل دارج آنذاك، وقد تَمَثَّل بها أبو سفيان حينما علم وهو مشرك أن ابنته أم حبيبة رملة رضي الله عنها أخت الخليفة معاوية قد زفَّت عروساً إلى محمد بن عبدالله بعد أن خطبها من الملك الحبشي النجاشي بينما كانت وزوجها مهاجرين مع من هاجر إلى هناك غير أن زوجها قد تَنَصَّر وطلقها فارسل محمد إلى الملك الصالح بخطبتها، وانتهى الأمر بزواجها من رسول الرحمة محمد.
علم أبو سفيان بالخبر وهو من هو بعلو شأنه ومع عداوته لمحمد ورسالته، إلا أنه لم يغضب ورضي بمحمد زوجاً لابنته قائلاً: (هو الفحل لا يُجدع أنفه)، وتقول بعض العرب: لا يُقدع؛ أي لا يضرب، بل لقد زارهم بمنزلها عند زوجها الكريم، ويروى أنه تلطَّف مع الرسول المُطهر ومازحه، وكل هذا قبل إسلامه، ومعنى العبارة انهم كانوا يضربون (يقدعون) أنف الجمل الضعيف الرديء إذا أراد أن يطرق الناقة الكريمة (الأصيلة) ليرجع عنها. أبو سفيان وهو الرجل الزعيم المجرب مع وقوفه بوجه محمد ودعوته المباركة إلاَّ أنه قدَّر قيمة رجل شريف كريم نزيه صادق أمين عرفته قريش والعرب ومن حولها منذ صغره بأنه قد حاز كل تلك السجايا والصفات الشريفة من قبل أن يبعثه الله سبحانه رسولاً نبياً، فبارك زواجه بابنته ورحب بالزوج النقي وبادر بزيارته، هؤلاء هم رجالات العرب الأفذاذ من ذوي النهى والألباب، يعرفون مكامن الحق والعدل والصدق قولاً وعملاً، نفوسهم الأبية وهممهم العالية تسند عقولهم الراجحة، فهؤلاء من يستحقون الرئاسة والريادة والملك، هم الأصل ولهم في حياتنا الحاضرة أحفاد توارثوا الحكمة والرجولة والحنكة، صاغتهم التجارب ودروس الكبار ليكونوا نماذج لما كان عليه الأوائل من رجالات العرب، فهي أمة لا تفنى، ولا تخبو نارها، ويُعوِّض بعضها قصور بعض إن حدث لأسباب وظروف عابرة.
أبو سفيان ليس الوحيد الذي يؤسس لهذه القدوات والسِّيَر الحسنة لرجالات العرب وفرسانهم وقادتهم وكافة شرائحهم من قبل ومن بعد، فغيره كثير تحدث عنهم تاريخ أمة الضاد الحافل ببديع المواقف وأحسن القَصَص، فلهذه الأمة حضارة وتاريخ موثق شهدت به الثقافات الأخرى وأخذت وتعلمت منه الكثير، رجالات العرب قبل الإسلام وبعده لهم تاريخ ودور مؤثر بمجتمعهم ومن حولهم، الجاهلية صفة تعني ضلال بعضهم عن توحيد الله، وليس جهلهم بكافة شئون الحياة فآثار حضارتهم تشهد بذلك، وفي سيرهم مواعظ وقَبَس من نور، فحري بنا ونحن نقرأ جَذِلين من قَصَصِهم ان نتخذهم القدوة الحسنة.