أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال الله سبحانه وتعالى:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (28) سورة المطففين؛ ولم يقل: (منها)؛ إشعاراً بأنَّ شُرْبَهم بالعينِ نفسِها خالصةً؛ لا بغيرِها؛ فضمَّن (يَشْرَبُ) معنى (يَرْوَى)؛ فعدَّى بالباء [ذاتِ الواحدةِ من فوق]؛ وهذا ألْطَفُ مأخذٍ، وأحسنُ معنى مِنْ أنْ يجعلَ الباءَ بمعنى مِن؛ ولكنَّ (يشربُ) الفعلُ [هو] معنى فِعْلٍ آخرَ؛ فيتعدَّى تعديتَه؛ وهذه طريقةُ الحُذَّاقِ من النُّحاة؛ وهي طريقة (سيبويهِ) وأئمةِ أصحابِه.. وقال في الأبرار:{يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [سورة الإنسان/5]؛ لأنَّ شُرْبَ المقربين لَمَّا كان أكْملَ اُسْتُعِيْرَ له الباءُ الدالةُ على شرب الرِّيِّ؛ ودلالةُ القرآنِ ألْطَفُ وأبلغُ من أن يحيط بها البشر.. وقال تعالى في سورة المطَّففين: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)} إلى قوله:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)}؛ فهؤلاء الظالمون أصحابُ الشمال.. ثم قال:{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)} [سورة المطففين/18-19]؛ فهؤلاء الأبرار المقتصدون.. وأَخْبَرَ أنَّ المقرَّبين يشهدون كتابهم.. أيْ يُكْتب بحضرتِهم ومشهدهم لا يُغَيَّبُوْن عنه؛ اعتناء بهم، وإظهاراً لكرامَتِهِم ومنزلَتِهم عند رَبِّهم.. ثم ذكر سبحانه نعيمَ الأبرار، ومجالَسَتَهم، ونظرَهم إلى ربهم، وظُهورَ نضرةِ النعيمِ في وجوهِهم.. ثم ذكر شرابهم؛ فقال: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [سورة المطففين:25-26، ثم قال: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} [سورة المطففين:27- 28].. والتسنيم أعْلَى أَشربةِ الجنة؛ فأخبر سبحانه أنَّ مِـزاجَ شراب الأبرار من التسنيم، وأنَّ المقربين يشربون منه بلا مِـزاج، ولهذا قال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} كما قال تعالى في سورة الإنسان سواء.. قال ابن عباس [رضي الله عنهم]، وغيرُه: يشرب بها المقربوصِرْفاً، ويُمْزج لأصحاب اليمين مزجاً؛ وهذا لأنَّ الجزاء وَفْقَ العملِ؛ فكما خلَصتْ أعمالُ المقربين كلُّها لله: خلص شرابُهم، وكما مَـزَج الأبرارُ الطاعاتِ بالمباحات: مزجَ لهم شرابَـهم؛ فمن أَخلص أُخْلص شرابُه، ومن مَزج مُزج شرابهُ.. قالوا: فهكذا هذه الآياتُ التي في سورة الملائكة: ذكر فيها الأقسامَ الثلاثة: الظالمَ لنفسِه؛ وهو من أصحاب الشمال، وذكر المقتصد وهو من أصحاب اليمين، وذكر السابقين وهم المقرَّبون.. انظر: طريق الهجرتين ص244-247.
قال أبو عبدالرحمن: تَرِدُ خلالَ هذه الحلقة أو بُعَيْدَها جُرْأَةٌ مِنِّي في مناقَشَةِ أَحَدِ أَئِمَّةِ المسلمين، أو عددٍ منهم؛ ولا أَتَـحَرَّج منها ؛ لأنَّ جِبَلَّنِي على عقلٍ شدِيدِ التَّحَرِّي والتدقيقِ والتحقيقِ، ولم يَجْعَلْني إمَّعَةً منذ تجاوزتُ مَيْعَةَ الصِّبا فُوَيْقَ خمسةٍ وعشرين عاماً إلى ثلاثين عاماً؛ وخلال ذلك دَرَّبْتُ عَقْلِيْ على التَّفَرُّغِ للقراءةِ لا همَّ لي غير ذلك؛ وَحَذَقْتُ (نظريَّةُ المعرفَةِ والعلمِ) ؛ ومنحني ربِّـي اللُّجُوء إليه بابتهالاتي بأنْ لا يجعلَ اللهُ في قلبي غِلّْاً على مؤمن، وبأنْ يُؤْتِيَ نفسيَ تَقْوَاها، وبأنْ يُزَكِّيَها وهو خيرُ مَن زكَّاها.. إلخ.. ومِن لطفِ الله بي: أنني منذ كان عُمْري عشرين عاماً أوْ فُوَيق ذلك: هداني إلى محاوَلَةِ الْتهامِ ما وصل إلى يدي من مَعارِفَ إمامٍ حَبْرٍ مَمْسُوحِ الغُرَّة ؛ وهو الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى، ورضي الله عنه، وقدَّس روحه، ونَوَّرَ ضرْيِحَهُ؛ وتلقيتُ عِلْمَه في صَلَفِ الشباب بالتَّعَصُّب له؛ فَكِدْتُ أعتقد له العصمةَ؛ فلما هضمتُ جدلَه واحتجاجَه وتأصيلَه وتفريْعَه: اِعْتدل عندي الميزانُ؛ فكنتُ أتناولُ أحكامَه الشرعيةَ والدنيويةَ كالنواحي الجماليةِ والنفسيةِ.. إلخ بالتحقيق والتدقيق، وأدعو له، وأعترف بإمامتِه وفَضْلِه وإنْ خالَفْتُه في بعض الأمور، وإنْ قسوتُ عليه أيضاً في أحكامٍ كان سَهْوُه عن حُكْمِها الصحيحِ شنيعاً جداً؛ ولذلك حديث مُمْتِعٌ مخلِّق مُنْصِفٌ في كُتُبي..وإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم إنْ شاء الله تعالى, والله المُستعانُ.