الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
لعل من أهم المظاهر الخطيرة لحياتنا المعاصرة هي ظاهرة السهر ليلاً، والتي أصيب بها نساؤنا وشبابنا وفتياتنا، وهو مخالفة لتعاليم الدين الإسلامي الحنيف، حيث إن النوم نعمة من نعم الله عز وجل، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (سورة النبأ 10-11).
ولا شك أن السهر الذي يزداد في الإجازات له أضرار دينية واجتماعية واقتصادية، وله آثار وعواقب وخيمة على الصحة، كما أن السهر تدمير نفسي واجتماعي وجسدي.
«الجزيرة» طرحت القضية التي تمثل ظاهرة في المجتمعات العربية عموماً ومجتمعنا على الوجه الخصوص لنتعرف عن المحاذير الشرعية والمخاطر الصحية لظاهرة السهر، وذلك من خلال مشاركة عدد من أصحاب الفضيلة والمتخصصين في العلوم التربوية والطبية والخبراء.. وكانت رؤاهم على النحو التالي:
السهر فيما لا فائدة منه
يقول د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي - الخبير التربوي عميد الأكاديمية العالمية للدراسات والتدريب برابطة العالم الإسلامي إن من المآسي التي عمت في بعض المجتمعات الإسلامية السهر فيما لا فائدة منه، حتى أصبح عادة مألوفة وأسلوب حياة، وهذه مخالفة صريحة لسنن الله تعالى وتوجيهاته المنظمة لشؤون الحياة، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان: 47] وقوله تعالى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [النبأ: 9 - 11].
ولا شك أن لذلك تأثيراً سلبياً كبيراً على حياة الناس، فتضيع بسببها الكثير من الفرائض الشرعية، والعبادات المختلفة، والخيرات والبركات، وينعكس ذلك على تقدم المجتمع ورقيه، وقد حذر الله تعالى المخالفين لأمره وتوجيهاته بالفتنة والعذاب الأليم، فقال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
وأشار د. الحازمي إلى بعض التوجيهات الشرعية، والجوانب المهمة لهذه الظاهرة، ومنها:
أولاً: عَنْ أَبِي بَرْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا.
ثانياً: مظنة تضييع صلاة الفجر، والتي راتبتها لها ما لها من الأجر العظيم كما أخبر عنها الرسول -صلى الله عليه وسلم -: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِن الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا». فكيف بها هي!!!
ثالثاً: قال صلى الله عليه وسلم: «بُورِكَ لأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا»، وفي هذا الحديث توجيه على أهمية العمل وقت البكور، والسهر ُيحرم الإنسان من هذه الفضيلة، وإن قام مبكراً أثّر ذلك على كفاءة العمل وجودته.
رابعاً: مما تتميز به الدول المتقدمة، تنظيم حياتها الاجتماعية، والعناية بالنوم المبكر، وعدم السهر إلا في وقت الإجازات.
خامساً: السهر دأب أهل الفساد، والقلوب الغافلة عن عبادة الله تعالى.
خطورة السهر
ويستشهد د. رياض بن حمد العُمري - أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: يقول المولى عز وجل: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ غافر: 61، ففي هذه الآية بيان من الله تعالى لحكمة خلق الليل والنهار، فالليل لسكن الناس وهدوئهم ونومهم والنهار لسعيهم وعملهم، كما قال في موضع آخر: وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [الرُّوم: 23].
ومن هنا فهذه الفطرة الكونية من الخالق جل وعلا هي أفضل ما يلائم جسم الإنسان وحاجاته البدنية والنفسية ومخالفة ذلك سبيل إلى إرهاق النفس والجسم. ولهذا جاء الشرع بالتأكيد على هذا الأمر وعدم مخالفته ولو بأداء بعض الطاعات، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم من أراد أن يقوم الليل كله بأداء الصلاة فقال: «لكني أصلي وأنام .. فمن رغب عن سنتي فليس مني» رواه البخاري ومسلم. فإذا نُهى المسلم عن السهر طول الليل في الطاعة فلئن ينهى عن ذلك في غيرها من باب أولى إلا لحاجة.
إن أكثر ما يحصل هذا السهر -في غير منفعة- في أوقات الإجازات كما هو الحال في هذه الفترة، وهي أكثر ما يحتج به أربابه، وفي الحقيقة أن هذه مشكلة مركبة بمعنى أنها مشكلة مترتبة على مشكلة أخرى هي الفراغ الذي يحصل لبعض الناس في هذه الإجازة في فترة النهار، فيتحول الليل إلى نهار والنهار إلى ليل. ولهذا من أهم ما يعالج به هذا الأمر أن يوجد الإنسان لنفسه عملاً نافعاً في نهاره يستغل به وقت هذه الإجازة ويستثمرها بالشكل الأمثل، ولا يقصد بالعمل العمل النظامي وإنما المراد أن يوجد المرء لنفسه أمراً مفيداً يشغل به وقته خصوصاً مع طول الإجازة الصيفية بالنسبة لأبنائنا الطلبة، فهذه الفترة كافية للاستجمام، وكذلك لشغل النفس بما هو نافع ومفيد فيكون الإنسان بذلك قد جمع بين الحسنيين.
ولقد تنوعت البرامج الصيفية المفيدة وخصوصاً لمن هم في مرحلة الشباب والذين يشكلون غالبية مجتمعنا اليوم، فهناك المشاريع التجارية الصغيرة، وهناك المؤسسات الخاصة التي توفر الأعمال الصيفية لأبنائنا الشباب، وهناك الدورات التدريبية والتعليمية النافعة المفيدة والتي دائماً ما تطرح في فترة الإجازة إلى غير ذلك، كل هذه الأمور النافعة وغيرها من المهم على أولياء الأمور حث أبنائهم على الاستفادة منها، وذلك لأن الإنسان إن لم يشغل نفسه بالمفيد شغلته بما هو غير نافع وأحياناً بما هو ضار وخصوصاً لمن هم في مرحلة الشباب. ولا شك إن مشكلة السهر غالباً مبنية على مشكلة الفراغ الذي يعانيه بعض الناس، وما لم يتم معالجة هذا الأمر فسينعكس ذلك على حياة الإنسان وعلى سلوكه ونفسيته، وقد يتجاوز الإنسان في ذلك فيصبح هذا الأمر سلوكاً مستداماً للإنسان لا يتقيد بإجازة مؤقتة ولا بفترة معينة مما يؤدي إلى ضرر الإنسان في نفسه وبدنه على المدى الطويل مع التقصير في واجباته الدينية والأسرية والعملية وغيرها.
مخاطر كثيرة
ويؤكد الدكتور عبد العزيز بن صالح الحمادي -المدير التنفيذي لمستشفى الحمادي فرع العليا بالرياض - أن ظاهرة السهر من الظواهر السّيّئة في المجتمع لما لها من أضرار ومخاطر صحيّة على جسم الإنسان، وبالذّات حينما لا يتحصّل على النوم المناسب بعدد الساعات المناسبة، وذلك باعتبار أنّ النوم الجيّد يطيل العمر ومفتاح للحياة الطويلة، وقلّته يؤدّي إلى الهلاك، وللسهر مخاطر كثيرة اجتماعية وأمنيّة واقتصاديّة وصحيّة.
وأشار الدكتور الحمادي إلى عدد من المضار الصحيّة التي تكون في جسم الإنسان جرّاء السهر، ومن ذلك: ظهور التعب والقلق والتوتّر العصبي، وسرعة الغضب مع ضعف التركيز بسبب قلّة النوم، ويحدث السهر وقلّة النوم اضطرابات في الجهاز المناعي وخللاً، وهو خط الدفاع الأول والأخير ضد الأمراض، ومن الأضرار حدوث اسوداد تحت العينين، واحمرار ونقص بحدّة الإبصار بسبب نقص إفراز مادة (أرودوبسين) التي تفرز بكثرة أثناء النوم ليلاً، ويصاحب السهر وقلّة النوم وجود القلق لدى الإنسان، وقد يؤثر على القلب. في حين أن النوم يؤدي إلى زيادة مخزون الطاقة في الجسم وتجديد خلايا وأنسجة الجسم نتيجة زيادة إنتاج البروتينات وانخفاض نسبة تكسيرها. كما أنّ هرمون النمو في الجسم يرتفع في أعلى مستوياته أثناء النوم.
وشدد الدكتور عبد العزيز الحمادي بضرورة أن يحرص الآباء والأمهات على تنظيم أوقات النوم لأبنائهم، وأن يكونوا قدوة لهم في أفعالهم وتصرّفاتهم وتجنيبهم المخاطر التي تؤثر على صحّتهم وسلامتهم.
ظاهرة السهر ليلاً
ويبين الدكتور/ محمد طه شمسي باشا -ماجستير في الأمراض الباطنية بمستشفى الحمادي «فرع النزهة» بالرياض - أن الله جعل في الليل الراحة والسكون وفي النهار السعي والحركة والعمل والجد، وهذه من سنن الله في الكون، ومن حاد عن هذه السنن أذاقه الله حياة البؤس والعذاب، قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) سورة طـه، فما بين النوم (الليل والظلام) والصحو (نور النهار وصخبه) هناك هرمون يفرز ليلاً أثناء الظلام وهو الميلاتونين ويعمل على تحفيز النعاس، وهرمون آخر يفرز في الصباح الباكر بشكل خاص وهو الكورتيزون ويعمل على تنشيط الجسم وزيادة قوته وطاقته، والإخلال بدورة النوم - اليقظة هذه يؤدي إلى الإخلال بعمل هذه الهرمونات، مشيراً إلى أن تناول بعض الأطعمة والمشروبات والأدوية يؤثر على عملية توازن النوم والسهر، مثل: مضادات الاحتقان والنيكوتين عند المدخنين والكحول، وكثرة شرب الشاي والقهوة، وكل هذه المؤثرات من شأنها أن تؤدي إلى عدم القدرة على الدخول في النوم وحدوث ظاهرة الأرق، كما أن السهر حتى ساعات الصباح الباكر والنوم صباحًا حتى الظهيرة أصبحت من العادات الشائعة السيئة، وهي لا تفيد في شيء سوى العبث بالصحة والوقت عدا عن انعكاسها على الناحية النفسية، حيث يصحو الإنسان ظهرًا معكر المزاج متثاقلاً مكتئبًا، وعلى الناحية الصحية فإن السهر ليلاً يرافقه تناول الوجبات الدسمة والتخمة في الطعام في وقت متأخر من الليل، فيصحو الإنسان وهو يشكو من الحرقة والحموضة المعدية وانتفاخ البطن بالغازات الصداع وثقل الراس وضعف القدرة على التركيز. ومع مرور الوقت وبسبب استمرار هذه العادات المعيشية والغذائية السيئة فإن ذلك يهيئ إلى الإصابة بـ:السمنة وتشحم الكبد، والداء السكري، ونقص الفيتامين (د) وارتفاع الضغط الدموي، وأمراض شرايين القلب التصلبية، وأمراض الظهر والمفاصل الناتجة عن قلة اللياقة وزيادة الوزن، وظهور أعراض الشيخوخة باكرًا على الجلد ومظاهر التعب والإنهاك على الوجه.
وينبه د. محمد طه باشا إلى أن هذه الظاهرة طالت فتياتنا وشبابنا كما طالت نساءنا، وهذا من شأنه تدمير مستقبل أمتنا وبلادنا بالعبث بالوقت وبما هو تافه وبالعبث بالصحة جسميًا وعقلياً، والله الذي خلق الخلق هداهم لما ينفعهم وصرفهم عما يضرهم وجعل من فطرتهم سعيهم لمنافعهم والبعد عما يهلكهم، فلماذا نهلك أنفسنا بأيدينا وقد بدا لنا ما بدا من مهالك تغيير هذه الفطرة وهذه السنن، لقد أصبحت بيوتنا في الضحى كالمقابر في وحشتها وسكونها بعد أن قلبنا سنة الله فينا. ولعل هذه الظاهرة أصابت دولنا العربية أكثر من غيرها وكثير من الدول الإسلامية في حين سلم منها الغربيون، وسبب ذلك هو جدهم في عملهم وتقديسهم له وجدهم في المحافظة على صحة أبدانهم، مما يؤكد الحاجة إلى مراجعة أنفسنا وعقولنا عن أفعالنا وعاداتنا وبحاجة إلى برامج توعية وتثقيف عسى أن تساعدنا في إيقاظنا من غفلتنا وتعيدنا إلى الالتزام بقواعد وسنن الحياة. وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى وزجر من أراد أن يقوم الليل كله في صلاة وعبادة فقال (لكني أصلي وأنام)، وكان (يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها)، فإنه أحرى بنا ألا نسهر بعد العشاء لغير ذلك إلا لضرورة.
قانون الانضباط
وتؤكد الأستاذة عائشة عادل السيد - المتخصصة في مجال الطفولة ورئيسة مجلس جمعية طفولة آمنة - أنه يتمرد الأطفال وخصوصاً المراهقين منهم على قانون الانضباط في الوقت الذي كان يلتزم به أيام المدرسة بالسهر خلال الإجازات، حيث يصعب على الوالدين السيطرة عليهم وإجبارهم على النوم مبكرًا، ويجد الأطفال متعة كبيرة وشغف لقضاء الوقت ليلاً باللعب مع الأقران من أطفال العائلة والجيران والذين قد يكبرونه سنًا» مما يطلعه على أمور لا تتناسب وعمره الزمني أو متابعة التلفاز لساعات طويلة والمسليات والوجبات السريعة بجانبه يلتهم منها دون ضبط أو تقنين أو اقتناء الأجهزة الذكية التي تنقله إلى عالم من الغموض والإثارة والتحدي يتعرف من خلالها على أشخاص افتراضيين قد يستدرجونه للعب معهم وتكوين صداقات غير متكافئة يلج من خلالهم ويبحر في بحور مظلمة من المعلومات التي لا تتناسب وسنه ومعتقداته ومجتمعه فيصاب بكثير من التناقضات والاضطرابات النفسية والانفعالية ناهيك عن الآثار الصحية والجسدية المدمرة لجهاز المناعة لديه والمؤثرة على إفراز الهرمونات الحيوية والضرورية لنموه الجسدي والعضلي والذهني، وإذا كانت هناك ادعاءات بإمكانية علاج الآثار الصحية التي نتجت عن الاضطراب الهرموني للنمو بالعقاقير الطبية إلا أن الآثار النفسية التي يحدثها السهر مع هذه الأجهزة والتعاطي معها لا يمكن علاجه أو التخفيف منه إلا بجهد جهيد وعمل دؤوب من المتابعة وإعادة التأهيل والذي لا يتقنه غالب الأهل، لذا كان لزامًا على كل ولي أمر يهتم لأمر أبنائه أن يكون القدوة الحسنة لهم في تنظيم الوقت والتخفيف من السهر ما أمكن وتوفير ما من شأنه استنزاف طاقة أبنائه أثناء النهار من الأنشطة العضلية التي تحدث التوازن الجسدي وتقنين فترات الجلوس أمام التلفاز والأجهزة الذكية.