شريفة الشملان
إنهم يفارقوننا، حقا نحن لا نتوقع الخلود لأحد لأن الخلود مستحيل ولم يخلد أحد من الأنبياء ولا الصديقين. ولقد ضاعت تجارب الأقدمين واللاحقين سدى في البحث عن الخلود.
تحدثنا كتب التاريخ والأدب عن تجارب الكثيرين الذين تسابقوا للخلود ولم يجدوه، وعلى رأسهم كلكامش العراقي الذي بحث عنه حتى وصل أرض دلمون البحرين حاليا ليلتقط زهرة الخلود، الزهرة التي سبقته الأفعى لها والتهمتها.. ترك لنا ملحمة شعرية جميلة بذلك كتبت على ألواح من الطين ففقدت بعض العبارات والكلمات لكن المتبقي جميل وملهم للشعراء والكتاب والمؤلفين.
ما علينا من المقدمة ولكن علينا أننا عندما نكبر نرى الكثيرين من حولنا يتساقطون صديقات وزميلات وزملاء، رجال ونساء أثروا فيها وعلمونا أو عرفنا عنهم عبر المصادر العربية والعالمية، قبل أسبوع كتبت عن العالم التركي الذي خدم العرب واللغة العربية والإسلام أعظم خدمة (د. سيزكين) الذي ودعته تركيا ونعته وبكاه الكثير من الأقلام المتابعة له ولعمله، والذي لم أعرفه شخصيا لكن الأفعال تتكلم أكثر من المعرفة القريبة..
اليوم أكتب عن رجل عرفته عن قرب وكان نجمًا ساطعًا في سماء اللغة العربية وليس في سماء العراق فحسب، نجا بنفسه عن الحزبية والسياسة، واتخذ من تطوير العربية وخدمتها عنوانًا لحياته كما حياة زوجته د. خديجة الحديثي، إنه العالم الكبير د. أحمد مطلوب الذي كان رئيسا لقسمنا أثناء دراستي في كلية الآداب، قسم الصحافة ومن ثم عميدا للكلية ذاتها، وحتى وصل رئيسا للمجمع العلمي العراقي، غفر الله له وجازاه خيرًا عن كل ما عمل وأسس وترك من آثار تحمد له..
ولد في تكريت ودرس ما بينها وبين بغداد والنجف الابتدائية والمتوسطة والثانوية، في جامعة بغداد درس حيث تخرج بمرتبة الشرف الأولى، الأول على كل أقسام كلية الآداب، في القاهرة كانت دراسته للماجستير والدكتوراه. درَس في كلية الآداب جامعة بغداد وفي جامعة الكويت ومن ثم جامعة (مارتن لوثر) في ألمانيا الشرقية آن ذاك، وبعدها في جامعة وهران الجزائر. في عام 1967م كان وزيرا للثقافة والإرشاد. ثم أصبح رئيسا للمجمع العلمي للغة العربية حتى توفاه الله في يوم السبت الماضي.
حصل عن استحقاق كبير على جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة اللغة العربية عام 2008م. واحتفت به الرياض وخاصة ممن تتلمذوا على يده وبعضهم دكاترة وأساتذة في الجامعات السعودية ومنهم الأستاذة الدكتورة نورة صالح الشملان تلميذته سابقا في كلية الآداب جامعة بغداد..
العلماء وحدهم هم من يتواضعون كثيرًا وكلما ازدادوا علمًا أحسوا إنهم يلزمهم الكثير {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}. أستاذنا المعلم الهادئ والمبتسم د. أحمد مطلوب كان كذلك. وبقدر ما هو متواضع ولطيف بقدر ما هو مشجع كان -رحمه الله- يولينا اهتماما كبيرا، على اعتبار أننا اللبنة الأولى في قسم الصحافة، تدرس تاريخها وتطورها جديًا، فهي ليست مقالا يكتب كيفما اتفق ولا تغطية تصاغ ويمضي الأمر، أنها تتطور بسرعة مذهلة وتكون صناعة وصوتًا وصورة.. وإذا كان السبق الصحفي مطلوب فإن الوصول للحقيقة مطلوب أكثر..
رحمه الله رحمة واسعة لم يبخل علينا بنصح ويؤكد علينا الاهتمام بالكلمة الصادقة والصحيحة بالوقت ذاته، ويعني فيما يعني الاهتمام باللغة السليمة لتصل معافاة للقارئ.
الذكرى الجميلة تبقى، ود. أحمد مطلوب آثاره وعلمه موجودة عبر العالم العربي من وهران الجزائر لمصر فالخليج العربي وحول العالم. ليس عبر الكتب والبحوث ولكن أيضًا عبر تلاميذه حول العالم ممن أحبوه حيا وها هم يدعون له ويترحمون عليه وهو عند الله عز وجل، وعلى ذاك الزمان الجميل.
رحم الله أستاذنا الكبير وأسكنه جنة الفردوس ولا ننسى زوجته الفاضلة والمجبولة أيضًا بحب اللغة العربية د. خديجة الحديثي التي سبقته لدار الخلود الحقيقي..
ومتعكم الله بطولة العمر وطاعته بصحة وعافية..