د. محمد بن إبراهيم الملحم
كلنا دخلنا مبنى المدرسة وعشنا فيها سنوات طوال من عمرنا، بل أكثر من مبنى في المراحل التعليمية الثلاث، وشاهدنا في كل مبنى معالم متفردة به عن غيره، فمبنى المرحلة الابتدائية غير مبنى المتوسطة غير مبنى الثانوية، بل إن بعضنا مر بتجربة الانتقال بين أكثر من مبنى وخاصة في المرحلة الابتدائية لطول سنواتها واحتمال انتقال الأسرة من مكان لمكان بل ربما من مدينة إلى أخرى... وتجربة المبنى بالنسبة للطفل (في الصفوف الأولية أو الروضة) لها أبعاد نفسية عميقة فهو المكان الذي يشعر فيه بالأمان بعيدا عن والديه فيألفه كأنه بيته ويحبه وينتمي له وسيكن له الحنين طوال عمره مهما تقدم به العمر، وخاصة إذا كانت حياته المدرسية فيه مفعمة بالحب والرعاية والاهتمام أو على أقل تقدير لم يكن فيها منغصات العيش وإرهاب بعض المعلمين (والمعلمات) الجهلاء برسالة التربية.. كما أن ذكريات المدرسة المتوسطة حيث بداية الاستقلال والاعتماد على الذات وتكوين رفاق المراهقة ومغامراته معهم لإثبات الذات وربما استكشاف هوايات جديدة نشأت في هذه المرحلة وتعرفه على مواد جديدة لأول مرة يتعلمها كاللغة الإنجليزية، وتحدي الصعاب في الوصول اليومي للمدرسة والتي تكون غالبا أبعد من المدرسة الابتدائية كل ذلك ملازم لذاكرة المبنى عندما يقف أحدنا يتأمل مدرسته المتوسطة بجدرانها ونوافذها وبوابتها الشامخة وربما أشجارها وساحاتها، وسواء تأمل ذلك على الحقيقة أو في خياله بعد أن هدمت وزال أثرها فإنها الذكرى التي تنتعش بها روحه وتطرب لها نفسه ويكررها على وعيه من فترة لأخرى دون أن يمل ويكل ويردد «ألا ليتَ ريعانَ الشبابِ جديدُ، ودهراً تولى، يا بثينَ، يعودُ»... أما المدرسة الثانوية فهي مرحلة التفرد الشخصي واكتمال الشخصية ودخول حياة جديدة حقا، ويميزها أن أغلب أصدقاؤك فيها لازال لك اتصال بهم وربما تلتقون من فترة لأخرى وكم تتمنون لو عدتم إلى نفس المكان لتجلسوا فيه جلستكم في الفسحة أو على طاولات الفصل فتعود أيام الزمن الغابرة، ولكن أنى يكون ذلك وقد غادرت تلك المدرسة الحياة أو هُجرت وعادت خاوية أو هدمت وبنيت أخرى بغير معالمها؟
كل من تقابلهم من الكبار وتتحدث معهم عن مدارسهم الابتدائية يبدؤون حديثهم بتنهيدة العاشق وزفرة المشتاق لتلك الأيام الخوالي ويبدأ في سرد ذكرياته الجميلة ولا يتوقف وربما استغرق المجلس كله، وفي خاتمة الحديث يتمنى لو كانت لديه ذكرى من تلك الأيام أو لو أن مدرسته لازالت قائمة على أصولها لزارها وقبّل ذا الجدارا وذا الجدارا بطريقة ابن الملوّح. ماذا بقي لكل هؤلاء من ذاكرة المدرسة، لا شيء سوى موقع المدرسة حيث هُدمَت وبني غيرها بشكل مختلف تماما، أو ربما لا زال المبنى ولكن أعيد ترميمه فغُـيِّرت ملامحه وربما مُحِيَت محاسن ما حوله من ساحات وأشجار وحدائق فزُرِعَت بها مدرسة أخرى لقلة ذات اليد من الأراضي! بل ربما بات المبنى مهجورا تسكنه الرياح وتعشش فيه الطيور! ومن كان محظوظا فقد تجد لديه صورة جاد بها الزمن من صديق كان يهوى التصوير في تلك الأيام التي كان مجرد فيها اقتناء كاميرا هو مشروع متكامل بالنسبة لكثيرين، وتأتينا بين الفينة والأخرى عبر الوتس مثل هذه الصور الجميلة النادرة والتي تجعلنا نتوقف أمامها لساعات نتأملها بل ربما نعود إليها من فترة لأخرى.
ذاكرة المدرسة... تمثل الكثير لأغلب الناس، فمن أضاع هذه الذاكرة؟ سنتحدث عن ذلك لاحقا...