د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** ليس مهمًا مصيرُ الصحف الورقية؛ فالمتغيراتُ التقنية أعصى في التنبؤ على من يود التأني من أجل فهم الواقع وتحليله وتعليله وانتظار الدراسات والإحصاءات والقرارات، وما ننام عليه قد لا نصبح فيه، والزمن لا يستأذن، والإحياءُ لا يعني الحياة، ولو غاب الورق فسيبقى الفكر، وحين يتراجع الإعلام التقليدي فالثقافة في مأمن، والمؤسسات الصحفية قادرة على التواؤم مع المستجدات دون أن تنتظر بكائيات الراثين وشماتة القالين ولغو الفارغين كما أخيلة الحالمين.
** الوضع لا يمسُ الصِّحافة وحدها؛ إذ التعليمُ متجه إلى تبديل تقاليده؛ فالمباني التعليمية تتضاءل والتعليم عن بعد يزدهر وزمن «السبورة والطبشورة» سيصبح أثرًا بعد عين، والتجارة تتحرّر من الدكان والمحاسب، والإدارة تتخلص من الصادر والوارد والمراسل، ودور النشر في مأزق، ومحطات فضائية تغلق بثها، وإذن؛ فليست الصحف الورقية وحدها التي ستختفي، وقد وعى هذه الحقيقة بصورة مختلفة «إيليا أبو ماضي 1889- 1957م» حين أصدر مجلة «السمير» في الولايات المتحدة عام 1929م موقنًا أن عمر الورق - ولو طال - قصير:
أنا لا أُهدي إليكم ورقًا غيرُكم يرضى بحبرٍ وورقْ ..
إنما أهدي إلى أرواحكم فِكَرًا تبقى إذا الطرسُ احترقْ
** احترقت الطروس أو توشك بفعل الزمن والتقنية لكن الثقافة لا تحترق، وأوعيتُها تتجدد وتتمدد؛ فإن توقفت الصحف والمجلات وخسر المؤلفون والناشرون فالوسائطُ الرقمية قادرة - بفاعلية أكبر- على نقل الخبر والرأي والنص والتعليق، ومن يحسن الانتقاء والاصطفاء فستنمو مكوناته المعرفية بشكل أسرع وأعمق، والأهم هنا أن ما كان سيضيع من كتبٍ وكتاباتٍ صار عصيًا على الاندثار في ظل رعاية البيانات ووسائط التخزين.
** كل شؤوننا طالها التغيير فلَم نتبرم؛ فلِم الآن والعالم الرقمي يسحرنا فننجذب إليه، وينأى عنا فنناجيه، ونلاطف مسوقيه وفنييه، ونقتطع من أقواتنا وأوقاتنا ونقتنيه، وعلى الرغم من أنه اخترق مساحاتنا الهادئة فلم نشكُ القيم التي ضاعت، ولا الزمن الذي أُهدر، ولم نسخر من البائع الذي لا يبيع، والمذيع الذي لا يذيع، كما لن نسخر من الكاتب الذي تاهت زاويته أو الصحفي الذي لا يجد صفحته فقد استبدلا بها زوايا وتكايا وصفحات، وكنا نراهما كلمات فصرنا نعيش معهما حكايات.
** ليت الجدل ينحو صوب العقل واللغة؛ فهما القادران على قراءة الغد وتسطيره وتأطير «عالَم البيانات» وفق ما يُفترض له من دورٍ ضخمٍ لم يُقدَر للوراقين، ولعلهم - إن وعوه - يرتقون النجوم.
** أكد «كليف هَمبي» - وهو بريطاني ومؤسس شركة كبرى في مجال المعلومات - أن البيانات هي النفط الجديد، وصدق؛ فتجارتها -كما تفعل شركات غوغل وعلي بابا وفيسبوك وأمازون - تكسب المليارات منا دون أن ندفع لها لأننا منتجاتُها، وبإمكان مؤسسات التعليم والإعلام والثقافة أن تستفيد من الناس دون أن تُكلفهم أو تَخسرهم أو تتباكى على فراديسها المفقودة.
** التحول قرار والغياب فِرار.