د. فوزية البكر
تمر المملكة العربية السعودية اليوم بمنعطفات هامة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ودولياً تحاول دولتنا الفتية فيها رسم سياسات جديدة في كل المجالات لتغيير خارطة التاريخ وذلك بإعادة تعريف المفاهيم المحلية والدولية التي ارتبطت ظلما بهذه البلاد لسنوات طوال، إذ جل ما كان يعرف عن المملكة هو ما تعلق بثرواتها البترولية وبخيال مستشرق حول الصحراء والجمال والمرأة المغلوبة وحقوق غير واضحة للعمالة.
خلال السنوات الأخيرة وبخطوات لا تعرف التردد قرر قادة البلاد تغيير وجه المملكة وإلى الأبد رغم ما يحمله هذا التغيير من دماء نازفة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وهو ما أود الوقوف عنده اليوم.. إذ نعرف جميعاً أن سنة الحياة تتطلب الاختلاف، وحتى فكرة الأغلبية لا تحمل الإجماع الكامل وهو ما يعني اعترافنا بأن هناك من قد لا يتوافق التغيير مع هواه أو ما يراه.. غير أن التغيير وخاصة حين يلمس قرشك يصبح مر المذاق، وحين يحاول خدش الأسطح العليا لعادات قام الناس على ممارستها دون التفكر فيها وبخاصة ما له علاقة بالمرأة، تصبح الأمور أكثر مرارة مما يعني أن الكثيرين الآن يتجرعون مرارة الخسارة في مشروعاتهم الصغيرة والكبيرة، ويتأملون ما سيؤول إليه الحال مع زوجاتهم وبناتهم اللاتي بدأت القوانين تعاملهن مثل البشر وكمواطن كامل، بما قد يهدد الكراسي العالية التي اعتاد الرجال النظر من فوقها إلى النساء.
لا يعني هذا أن هؤلاء الرجال بالضرورة كانوا يستنقصون المرأة أو يعاملونها بغير حق، لكن أن تعتاد أن تكون الآمر الناهي في مملكتك وشارعك ومتجرك وبقرش سهل التحصيل من خلال عمالة رخيصة ثم يتم تدرجياً تقليص حدود قدراتك الاقتصادية والثقافية.. فالتعود على ذلك قد يأخذ وقتاً ليس بالهين، وخاصة لمن لهم طروحات فكرية قد توصف بالتشدد؛ أي أنها لم تكن مجرد ممارسات متوارثة، بل كانت نتاج قناعات فكرية إضافة إلى ساكني القري والأرياف خارج المدن الكبيرة والذين يميلون في العادة إلى المحافظة.
ما أود التأكيد عليه هنا أنه ورغم الاختلاف وتبدل المقاعد الآن إلا أننا أمة واحدة في بلد عظيم يضم أهم المقدسات في العالم وعلينا أن نعتني بالرافض، كما نعتني بالموافق والمصفق.. فالجميع أبناء هذه الأمة، ويجب أن يكون لدينا من القدرات العقلية والنفسية الإيجابية ما يساعد على تفهم واحتضان الرافضين حتى يدركوا أن العجلة ستستمر في الدوران حتى لو اختاروا الوقوف.
وهنا أحب أن أشير إلى دراسة للدكتورعبدالرحمن الشقير نشرت عام 2017 بعنوان: قيادة المرأة للسيارة ودور علم الاجتماع في التحوّل الوطني ذكر فيها الآتي: (أنه يمكن تصنيف قرار قيادة المرأة للسيارة بأنه انتصار لوجود المرأة وليس لمشكلاتها فقط، فهي الآن أمام حالة إثبات أن المرأة سند للمجتمع وليست عبئاً أخلاقياً، مما يتطلب إعادة ترتيب القيم الاجتماعية بشكل تضمن به الدولة الحفاظ على المعاني العميقة للقيم الاجتماعية الأساسية. وذكر أنه لا بد من التعرض لآلام التغيير، ودور الإنسان هو محاولة الإسهام في دعم هذا التغيير بالنقد والاستفسار ومحاولة تفهم التغيير بدلاً من مقاومته مع تدريب نفسه على رؤية التغيرات من زوايا إيجابية. وطالبت الدراسة بضرورة استخدام علم النفس الإيجابي لتحمل تبعات التغيير سواء للرافضين المؤدلجين أم للبسطاء والمهمشين والفقراء الذين تمترسوا طويلاً في حصون مقولات الصحوة لحماية أنفسهم من الشعور بالغبن والتهميش وهاهي هذ المقولات تتهاوي فما البدائل..؟).
البدائل أن تساهم المؤسسات الاجتماعية والخيرية ونوادي الأحياء والمدارس والجامعات والإعلام في نشر مفاهيم الحياة الإيجابية ونشر مفهوم السعادة، بل وإرغام البعض على تعلم مفاهيم السعادة والحياة الفردية والتي لم يعتادوا عليها وتم تعليمهم منذ نعومة أظافرهم أن الحياة هي كبد وشقاء، فلماذا نركض وراءها، وحين تؤمن فعلاً بذلك فلماذا تعمل أي شيء لتحسين حياتك؟.
علينا احتضان الرافضين والغاضبين ومحاولة توسيع رؤيتهم للبدائل المتاحة فوجود إذن السواقة للنساء على سبيل المثال لم يعن أن كل امرأة في المملكة تستطيع أو قادرة على القيادة وإنما تعني فقط أن الخيار موجود، ويمكن للمرأة متى ما ساعدتها الظروف أن تستخدمه.. وهذا ينسحب على كافة المتغيرات الأخرى التي طرحت لتغيير طبيعة الاقتصاد الرعوي، وتغيير البنية الثقافية والاجتماعية الأبوية لمجتمعنا.. إذ سيأخذ الأمر وقتاً للتعوّد، وعلينا فقط أن لا نرمي الرافضين بالحجارة، بل لنتذكر أننا في يوم ما قد رمينا ظلماً بحجارة التعصب والحزبية والقبلية المقيتة، فلا ترموا الحجارة مرة أخرى على أبناء وبنات هذا الوطن أيّاً كانوا.