د.فوزية أبو خالد
كنت محظوظة أن أخرج على التوعك الجسدي والوجداني الذي كنت أحس أنه ينهش هشاشة عظامي ويعلج عشب مشاعري، لأعيش بعيداً عن اختناقاتي الشخصية قريباً من الأشواق المعرفية العامة وتوق العدل العالمي لما يقارب ساعة وعشر دقائق من خلال الفيلم الأمريكي الوثائقي «محاكمة الشر»، من إخراج باري آفريش (Barry Avirch)
وبطولة المواطن الأمريكي التسعيني (98سنة ) بنجمن فيرنسز (Benjamin Ferencz).
ذلك الطفل الذي هاجر في عشرينات القرن الماضي من رومانيا مع أسرته اليهودية المدقعة وعمره لم يبلغ ست سنوات على الدرجة الرابعة من الباخرة المتجهة لنيويورك، لأنه كما روى بعد عرض الفيلم لم يكن هناك درجة دونها، ليلتحق بعد وصوله وأسرته لأرض الأحلام كما كانت تسمى أمريكا بالمدرسة, وليتخرج بعد أقل من عقدين محامياً من جامعة هارفرد، ثم لا يلبث قبل منتصف القرن العشرين وتحديداً نوفمبر 1445 أكتوبر 1446م أن يقود واحدة من أوائل المحاكمات العدلية العالمية في التاريخ الحديث لمقاضاة الجرائم النازية البشعة التي ارتكبها العسكر بقيادة هتلر لألمانيا إبان الحرب العالمية الثانية. وهي ما عرف بمحكمة نورمبيرغ. «لا جريمة تفلت من العدالة» كان ذلك هو شعار المجموعة العالمية العاملة التي تبنت مبادرة إقامة محاكم مدنية لمقاضاة العسكرية النازية المتورطة في الإبادات الجماعية إبان الحرب. وهي مجموعة عدلية نشطت في تطبيق القانون ضد جرائم الحرب وكانت تعرف باسم «المجموعات الحركية» Einsatzgruppen, or action groups.
وبهدف مقاضاة مجرمي الحرب شكلت المجموعة الحركية فريق عمل للبحث والتحري الجنائي في السجلات الرسمية للجيش الألماني استطاع التعرف على شخوص المجرمين وتحديدهم على وجه الدقة. وهم اثنان وعشرون عسكرياً من كبار قادة الرايخ الهتلري كانوا مسؤولين مسؤولية مباشرة عن مقتل مليون شخص. ولم يكن العدد مجازياً أو تقديرياً من محتجزي مخيمات المعازل وقتلى الأفران النازية بل كان العدد مثبتاً في سجلات إنجاز مهمة القتل اليومية التي صنفتهم بحسب العرق والإثنية في القرى والمدن. ولم يكن شاهد العيان الوحيد الباقي حياً إلى اليوم (بينجمن فرانسز) مجرد مشاهد بعيد، بل كان في عين ذلك التحدي القانوني لجريمة الحرب حيث لعب دور المدعي العام في تلك المحاكمة. غير أن شغف الرجل العدلي لم يتوقف عند إنجاز تلك المحاكمة التي لم تخل بطبيعة الحال البشرية من حس التشفي ولكن بمعناه المقنن وليس بالمعنى الثأري المجرد، وهو ما لم ينكره في حديثه عن جريمة الهوليكوست، بل أصبح ذلك الشغف قضية حياة بالنسبة له فسعى به على مدى ما يزيد على نصف قرن مع عدد من المؤمنين بتوطين «ثقافة مقاومة إفلات المجرم من العقاب بقوة القانون « على تأسيس محكمة الجنايات الدولية التي تحول الحلم بها إلى حقيقة عام 2002م. وهي مؤسسة قضائية دولية مستقلة عن محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة، حيث تعنى الأولى بمحاكمة مجرمي الحرب في الدول المنكوبة بالحروب أو بالتصفيات الجماعية العنصرية عرقية، إثنية، دينية، مذهبية، سياسية الخ، بينما تعنى الثانية بالنزاعات القضائية بين الدول وإن كان مقر كلتاهما هولاندا.
«لا للحرب نعم للقانون»، «لا لإفلات المجرم من العقاب نعم للمحاكمة العلنية العادلة» «لا للعقاب بدون محاكمة علنية عادلة نعم لحق المقاومة السلمية واللجوء للقضاء» «لا للحروب المجانية العابرة للقارات نعم للحول السلمية والمفاوضات القانونية» «لا لسياسة تبييض صفحات مجرمي الحرب بتجديد العهود الإعلامية والوعود الكاذبة» «لا لثقافة تقديم صكوك الغفران لمجرمي الحروب».
كانت هذه بعض من المبادئ التي قال بطل الفيلم الوثائقي «محاكمة الشر» انه تعلمها حرفاً حرفاً وموقفاً موقفاً طوال مشواره الحقوقي الذي امتد عبر مسيرة ما يزيد على سبعين عاماً في مقاومة الحروب بمحاكمة مجرميها.
إلا أن الموقف النقدي الصادق يقتضي القول بأن الفيلم وإن أشار على استحياء بكارثية قرار بوش الابن بشن ما أسمه الحرب على الإرهاب بغزو أفغانستان وبالحرب البواح على العراق وتفكيك منطقة الشرق الأوسط، فقد فشل مع الأسف في إدانة تلك الحرب إدانة واضحة ولو على مستوى موقفي. ناهيك عن عجز التهويب من بعيد أو قريب لمطلب تقديم مقترفي جرائم تلك الحروب للمحاكمة. كما أن الفيلم لايُبرأ على الرغم من الإبداع الإخراجي في تجسيد بشاعات الحروب وفظاعاتها وضحاياها إنه قصر تلك المشاهد الجارحة على مرحلة الأبيض والأسود متجاهلا كل المشاهد الملونة بالدم التي تجري على أرض فلسطين من ما قبل عام 1948م وإلى اليوم. وهو في نفس سياق تجنب ربط جرائم الحرب بالتسلسل الزمني في علاقته بالمسرح العالمي للحروب لم يشر أي إشارة منصفة لمجرمي حرب ضليعين من بن جوريون وجولدا مائير إلى موشي ديان وشارون ونتنياهو وقائمة الإجرام الصهيوني الطويلة في هذا الصدد.
أما مجرمو الحرب من هولاكو، بشار، ومن الحوثي للسليماني فذلك فيلم دموي على أرض الواقع لن يفلت دروكالاته من عدالة الأرض ولا السماء بإذن الله.