د. حسن بن فهد الهويمل
(التفسخ الإعلامي) قضيةٌ مُسَلَّمةٌ, تمارسه شرذمة قليلة من الإعلام الموجه, والإعلام المضاد. والتفسخ دركات. كما أن الصدق, والعدل درجات, وقل من يعي هذه المُسَلَّمةَ, لأن الوعي يحمل على الاستقامة.
الكارثيةُ تتمثل في انصياع الرأي العام, وتقبله لمثل هذه المفتريات, وتشكيل وعيه على عين هذا الإعلام الظالم أهله.
الكلمة الطيبة المؤهلة لتشكيل وعي الأمة لا بد أن تتسم بـ: (صِدقِ الخبر), و(عَدْلِ الحكم) على حد:- {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً}. فإذا نَقَلَتْ أخباراً صدقت, وإذا حكمت على حدث عدلت, وفَقْدُ أحد السمتين, أو كلتيهما يُضِلُّ الأمة, ويشكل نسقها الثقافي على غير هُدَى, ولا كتاب منير.
وهذا بعض ما تعانيه الشعوب كافة, و(الثالثية) منها على وجه الخصوص, حتى الدول التي تَدَّعي الحرية, والعدل, والمساواة, تمارس التزييف, والتضليل.
الشعب (الأمريكي) بوصفه (ليلى) المستغربين المبهورين شَعْبٌ أكثره مُضَلَّل, يحكمه إعلامٌ موجه. يرتهنه لخطابه الكاذب, الجائر.
والدليل على ذلك انصياع الشعب الأمريكي للدعاوى الكاذبة, ومناصرته لأَرْذَلِ القوم, وتردده في قبول الدفاع المشروع عن سائر القيم المغموطة.
ودعك من المسؤولين الذين تحكمهم (أجِنْدَة) لا تُرَاعِي العدل, ولا المصداقية.
وإذ يكون لكل مِلَّةٍ, أو نِحْلةٍ مصادرها المعرفية, فإن لكل دولة خطابها الإعلامي, الذي يفقد في كثير من الأحيان (الصدق, والعدل).
وكل مُرْسِل يَفْترض متلقياً خالي الذهن, أو مُمْتَلِئَه. و(مقتضى الحال) يحدد مستوى الخطاب, ونبرته, وحجاجيته.
ومن نظريات الأسلوبية: (النظرية التداولية) التي تحدد الحقل اللغوي لكل خطاب, ومستوى نبرته, ومواءمته لأجواء الحدث.
قد يُصاحِبُ الكذبَ, والجورَ غباءُ المرسل, وصفاقته, وذلك حين تتعرى مفترياته, ويمجها المشهد, ثم تراها تجري عبر قنوات إعلامه, الذي يَدَّعِي أنه الأقوى تأثيراً, والأقدر إقناعاً.
ولا سيما إذا كانت الدولة المصابة بهوس الرغاء, قد رمت بثقلها في حرب الكلام, فاشترت من أجله الألسن, والأقلام, وأنشأت مئات القنوات, وآلاف المواقع, وأوجفت بمرتزقة تَعَرَّتْ أخلاقياتها .
لا أريد ارتهان رؤيتي لحدث عارض, كالمقترف (القَطَرِي) في قضية (تسييس الحج), و(تدويل المشاعر), وهي الورقة المهترئة, التي توسل بها كل مناوئ لـ(لمملكة).
لقد أصبح الناس كلهم أجمعون يرقبون هذا الهراء, كلما هلَّت (الأشهر الحرم). وما من أحد من الطائفين, والعاكفين, والركع السجود إلا هو سامع, لا مستمع, ومار باللغو, وكأنه لا يعنيه.
فالحُجَّاج, والعُمَّار قَدِمَوا إلى ربهم في مقدساته, ملبين نداءه:- {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}. ولم يَقْدُم أحد منهم على نظام سياسي, ولم يَجِد في المشاعر من يحكم تصرفاته, أو يملي عليه أقواله, أو يوجه أفعاله. والملبي نداء ربه يعيش في منتهى الأمن, والسلامة, والتسهيل.
يَرَى المواطنَ السعودي يدفعُ بسخاء, لتهيئة الأجواء. والمسؤولَ الأمني يراقب عن بعد, لتوفير متطلبات الحشود, لا يفرق بين أحد من ضيوف الرحمن. وسائر الخدمات تستبق الخيرات, وتتنافس على توفير أقصى متطلبات ضيوف الرحمن.
والدولة تصرف (المليارات) لتهيئة المشاعر, وتسهيل الشعائر, لا تريد من أحد جزاء, ولا شكورا. تفعل ذلك كله لوجه الله.
يأتي الحاج ليشهد المنافع, ويعود دون إملاءات, أو توجيهات. والزعيق الأرعن يتلاشى وسط ضجيج الحجيج بالتكبير, والتهليل, والتلبية. وإشباع الرغبات من المشاعر, والشعائر.
هذه الأسطوانة المشروخة التي يتبادلها الانقلابيون, والمجوس, والمتذيلون لهم, تكشف عن تفاهة ذويها, وإفلاسهم.
تلك المقترفات الموسمية استهلكت نفسها, ولم تعد مجدية. والمتوسلون بها يؤكدون إفلاسهم .
(التفسخ الإعلامي) لا يقف عند هذه الشِّنْشِنَةِ, وهذا الفحيح الأفعاوي, ولكنه يمتد ليكون بجملته كاذباً مكشوف الكذب, جائراً بَيَّن الجور.
(المملكة العربية السعودية) دولة بشرية, تأكل الطعام, وتمشي في أسواق السياسة, وليست ملائكية, وليس غريباً أن تتعارض مصالحها مع غيرها, وقد تكتشف مواطأة حزب, أو طائفة, أو دولة مع أعدائها, فلا تَجِدُ بُدَّاً من المواجهة الإعلامية. تلك مسلمات, لا أحد يستطيع إنكارها.
(تاتشر) حسمت التردد بقولها:- (لا تدوم إلا المصالح). فالصداقات, والعلاقات, والتحالفات مرتبطة بالمصالح. والعلاقات, تدور معها حيث تدور, ولكن الشرفاء شرفاء, وإن تعارضت المصالح.
ومن ثم لا نستبعد المواجهة الإعلامية مع المملكة, من أي دولة, وفي أي لحظة. أما (التفسخ الإعلامي) فلا يمت بصلة إلى تنازع المصالح.
(التفسخ الإعلامي) أن تكون كاذباً أبداً, مفترياً أبداً, ترمي بدائك غيرك, وتقول ما تعلم أنه كذب, وما تعلم أن غيرك يعلم أنه كذب, تزكي نفسك الأمارة بالسوء, وتُجَرِّمُ نفوساً لوَّامة.
(التفسخ الإعلامي) أن يكون المتفسخ غبياً, لا يقدر على ستر قاذوراته, ثم لا يجد حرجاً من مناكفة من هو خير منه, وأهدى سبيلا. وكأنه (براقش) تلك الكلبة التي خلدها فعلها الضار بأهلها.
(التفسخ الإعلامي) أن يعرف المتفسخ أن خصمه يَفُوق لداته بالعطاء, وحسن الجوار, والوفاء بالعهود, والمواثيق, وتفضيل الحوار على الصدام, ويقدم نفسه للعالم بالقول المعروف: صدقاً, وعدلاً. وبالفعل السوي مشاركة, وَرِفدا, ثم لا يتردد المتفسخ في إنكار تلك الخصال الحميدة جملة, وتفصيلا.
بل يبلغ الحمقُ بالمتفسخ دَرَكَ الادعاءِ لتلك الفضائل, واتهام خصمه فيما هو عليه من سوء في الأخلاق, وخيانة في المعاملة, وتفريق للكلمة, وإيواء للمُحْدِثين, وتسليح للخارجين على الشرعية, وتدخل سافر في شؤون الغير, وسيادتهم.
{لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}. وصدق الله:- {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}.
فلترتع الألسنة البقرية في الزبد المجفو ما شاءت لها ذِمَمُها الفاسدة أن ترتع, ولتستخف قَوْمَها ما شاءت لها أهواؤها أن تستخف, حتى يأتي أمر الله.