أ.د.عثمان بن صالح العامر
تحدثت في مقال الجمعة الماضية عن القيمة الأهم للشخصية السعودية - في نظري ألا وهي (القوة) بدلالتها العامة والشاملة، ونقدت الفهم الخاطئ لدينا لهذا المصطلح، وفصلت القول في الدلالة الحقيقية للفظة القوة محل الحديث، والقيمة الثانية التي تأتي تباعاً بعد سابقتها هي (الأمانة)، التي ليست كما يظن البعض من أنها تعني فقط القيام على المال الذي تحت يد الواحد منا بما هو واجب فيه شرعاً وعقلاً، خوفاً من الله أولاً ثم من السلطة الحاكمة، ذات السيادة الكاملة، وصاحبة الحق المطلق في المساءلة والمحاسبة، إذ إن هذا المصطلح (الأمانة) له دلالات واسعة ومعاني شاملة يمكن إيجاز الحديث عنها في أمرين أساسيين:
* أمانة الأخذ: سواء أكان المأخوذ مالاً أم جاها أو منصباً أو سراً أو قولاً أو صداقة أو علماً أو عرضاً أو مشورة أو... فلا تأخذه إلا بوجه حق دون اغتصاب له أو تعدّ عليه أو تطفل أو تزلف أو تكلف ومحاباة، وتأخذه كما هو دون زيادة أو نقصان منه، وتستوثق من أنك أخذته من مصدره الصحيح، وأن الأخذ منك له عن وعي كامل وعقلية تامة وقلب متجرد صادق مخلص، فلا يكن منك إبطان خلاف ما تظهر، فتكون في زمرة الخائنين لدينهم ولأوطانهم ولشعوبهم ومجتمعاتهم بل لذواتهم ومن يحيطون بهم من أقارب وجيران.
* أمانة الرد أو العطاء، فأنت مؤتمن على ما أخذت والتزمت به، فإن كان المطلوب منك رده بعد تنميته وتطويره فالواجب عليك أن تبذل جهدك في تحقيق هذا الشيء بأمانة وصدق وإخلاص، ولا تتوانَ عن تقديم ما في وسعك للوصول إلى أقصى درجة التقدم المنشود في القطاع الذي تنتمي له، ويحدد هذا ويضبط إيقاعه السياسة العامة التي اختطها المخطط الاستراتيجي في الدولة، والظروف المحيطة بالجهاز الحكومي على وجه العموم، وموقعك في خارطة المناصب بالمؤسسة التي تعمل فيها، ولكن مهما كان مكانك فأنت ملزم برد الأمانة التي وسدت لك بكل صدق وصبر وإخلاص.
إن القراءة المتأنية في قيم الشخصية المنتجة ببلدان العالم المتقدم أجمع تحيلنا إلى هاتين السمتين بدرجات مختلفة، ولا يمكن الفصل بينهما أو تقديم أحدهما على الأخرى، حتى قول يوسف عليه السلام للعزيز: «قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم» الذي جاء بعد قول العزيز عنه عليه الصلاة والسلام: «وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين» يدل ويؤكد أن مرجعية (الحفظ) قيمة (الأمانة)، ومرجعية (العلم) قيمة (القوة) التي جعلت العزيز يعطي ليوسف عليه الصلاة والسلام صلاحيات مطلقة من خلال مبدأ (التمكين) بعد أن سمع حكايته كاملة، وعرف مكامن القوة لديه، ثم إن يوسف عليه السلام لم يقل هذا عن نفسه إلا ليقينه الجازم بأهمية هاتين القيمتين فيمن سيتولى أمراً جللاً يهم الناس كل الناس في المجتمع، ويحتاج إلى تخطيط جيد لمدة خمسة عشر عاماً، ولمن سينخرط في تنفيذ هذا النوع من الاستراتيجيات الوطنية البعيدة المدى عليه أن يتمتع بهاتين السمتين الأساسيتين المرتكزتين على القوة والأمانة.
إن قصر الحديث عن هاتين القيمتين لا يقلل من شأن القيم الثانية ذات الصِّلة بالإنتاجية الوطنية والفاعلية الإيجابية في مجتمع العمل، ولكن حين التأمل فيها وإطالة النظر بدلالاتها وأبعادها ومضامينها المختلفة سنجد أنها تئول في النهاية إلى ما سبق الحديث عنه.
لقد أعاد - مهندس ومبدع وراسم استراتيجية المملكة العربية السعودية المستقبلية (رؤية المملكة 2030) - صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد الأمين الثقة المطلقة والإرادة النافذة والعزيمة والإقدام لدى الشباب السعودي والفتاة السعودية عامة، حين أكد لحظة الانطلاق على أنه سيمضي في تحقيق هذه الرؤية بعقلية وسواعد وإرادة سعودية بحتة، وبقينا نحن اليوم تحت طائلة الامتحان الشامل، وفِي معترك الاختبار الميداني الحقيقي لنصل إلى مجتمع منتج منافس عالمياً بامتياز، فهل نحقق هاتين القيمتين في شخصيتنا حتى نكون كما يأمل فينا قادتنا، أتمنى ذلك وأنشده كما يتوق لتحققه ووجوده كل سعودي محب غيور، ألقاكم على خير، ودمت عزيزاً يا وطني، وإلى لقاء والسلام.