د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تغيَّرتْ السياسة الأمريكية بشكل جذري مع مجيء الرئيس دونالد ترمب. وهذا يتطلب قراءة موضوعية تسبر هذه التغيرات التي بدأت تبرز على الساحة العالمية، وربما يبقى أثرها لوقت طويل حتى ولو حاول رؤساء قادمون تغييرها، فتداعياتها الظاهرة والخفية عميقة بلا أدنى شك، وقد تغير ليس المشهد السياسي العالمي فحسب بل مسار التاريخ العالمي الحديث أيضًا.
لا يفتقر الرئيس ترمب -كما تروج بعض وسائل الإعلام - للرؤية الإستراتيجية أو الحنكة السياسية. وفكر الرئيس ترمب ليس فكرًا مرحليًا أو متناقضًا كما يعتقد البضع، بل هو فكر منظم منسجم مع نفسه ومع معطيات العالم من حوله. نتفق معه أو نختلف هذا أمر آخر مختلف جدًا. فالنظام الفكري الذي يؤطر سياسات ترمب يتضح يومًا بعد الآخر، نظام يستند لقواعد جديدة في التعامل مع الحلفاء والأعداء على حد سواء، وينسجم إلى حد كبير مع البراجماتيكية الأمريكية ولكن من بُعد مختلف.
اتبع التحالف الغربي الليبرالي لعقود الحرب الباردة سياسة ليبرالية كان الضابط لإيقاعها النظام الشمولي الاشتراكي في المعسكر الشرقي. وقد بث راديو ليبرتي، البالغ التأثير، طيلة الحرب الباردة برامجه المبشرة بالقيم الليبرالية الغربية بجميع لغات العالم الرئيسة. واستندت هذه القيم على الحرية الشخصية والاقتصادية وتبني نظام الانتخابات وتداول السلطة حتى لو لم يشتمل ذلك على تغيير حقيقي فيها. وانعكس ذلك في كثير من الأمور الاجتماعية والإدارية والفنية والثقافية التي كان النظام الاشتراكي يحظرها ويقاومها، كمثل برجوازية كحرية الرأي، والحريات الاجتماعية، وموسيقى الروك، والجاز، وأفلام السينما، إلخ.. شكلت القيم في مجملها «قيم الغرب» وتشدق بها جميع الرؤساء الغربيين من بداية الحرب الباردة حتى اليوم بدءًا بكينيدي وهارولد ويلسون وانتهاءً ببوش الابن وأوباما وتيريزا مي. ودخلت الدول الغربية في تحالف عسكري كبير لحماية هذه القيم هو حلف الناتو، وشنَّ الغرب حروبًا عدة في العالم في فيتنام والشرق الأوسط وغيرها بحجة حمايتها.
انتهت الحرب الباردة، وانهار الاتحاد السوفيتي ودخلت بعض دوله في الناتو. وانهار جدار برلين. وانتصرت -كما يقال- القيم الليبرالية الغربية كما بشر فكوياما وغيره. ودخل العالم في مرحلة العولمة الاقتصادية التي تستند على «القيم الغربية» وتلاشت تدريجيًا الدعاية للمُثل الليبرالية الأخرى. وشكَّل التنافس على بيع السلاح جزءًا كبيرًا من فضاء العولمة الجديدة. إلا أن هناك دولاً صناعية كالصين وألمانيا كسبت اقتصاديًا من العولمة أكثر من غيرها، بينما تضررت أمريكا التي اعتادت قيادة العالم اقتصاديًا ببروز الصين وانتقال كثير من وسائل الإنتاج الصناعي الأمريكي لها. باختصار ميزان القوى الاقتصادية العالمي تغير، وجرت الرياح بما لا تشتهيه سفن أمريكا.
يفكر ترمب بعقلية اقتصادية بحتة بعيدًا عن المثل السياسية، يفكر كرجل أعمال في حساباته كل شيء يحسب بالمال وأمريكا تأتي أولاًَ. وبحسابات الربح والخسارة اليوم تخسر أمريكا وتربح دول أخرى منها دول حليفة كألمانيا. ولذا فهو يرى إمكانية التخلي عن القيم الليبرالية المثالية التي ورثها الغرب بعد الحرب العالمية الثانية لحساب قيم اقتصادية وسياسية واقعية. ويمكن التضحية بالعولمة في سبيل اقتصاد أمريكي حمائي يسهم في تعديل الميزان التجاري الأمريكي مع الصين التي تملك فوائض ضخمة في أمريكا ذاتها. والدول الغربية الأعضاء في الناتو مطالبة دون مواربة أو مجاملة بتحمل جزء أكبر من ميزانية الناتو الذي هو أساسًا -في نظر ترمب- أنشيء لحماية أوروبا من الاتحاد السوفيتي.
تطمح أمريكا ترمب لإعادة الهيمنة الأمريكية الاقتصادية على العالم، والعدو الأول لاقتصاد أمريكا هو الصين ودول آسيا. أما المهدد الأول لتنفيذ سياسات أمريكا التوسعية فهو روسيا بقوتها العسكرية وروحها القومية المتأججة، وليس أوروبا التي سيتم التعامل معها ليس على أساس المثاليات الغربية الآخذة بالتلاشي نتيجة لاتباع السياسات الأمنية المشددة مؤخرًا، بل على أسس اقتصادية بحتة حتى ولو تطلب ذلك حل الناتو الذي يراه ترمب بوضعه الحالي، وبسبب التكاليف الباهظة للقواعد الأمريكية في أوروبا، عبئًا على الاقتصاد الأمريكي.
الناتو اليوم يحتل المرتبة الثانية في اهتمامات ترمب الاقتصادية البحتة، والتفاهم مع روسيا الخصم القوي المحتمل يحتل المرتبة الأولى. ولو تم التفاهم مع روسيا حول اقتسام مناطق النفوذ في العالم لتمت إعادة صياغة النظام العالمي القديم من بعد الحرب العالمية الثانية في نظام عالمي جديد تعاد فيه التفاهمات والتحالفات. وستستفيد أمريكا كثيرًا حتى ولو خسرت بعض الحلفاء الأوربيين التقليديين. ويجب ألا ننسى أن جميع الرؤساء الأمريكيين تحدثوا عن نظام عالمي جديد فور سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار جدار برلين، والرئيس ترمب لم يخرج عن هذا الإطار بل نفذه بأسلوبه الخاص وفق معطيات اقتصادية وليست سياسية.